أول ما قال المغني عند الإفاقة

1
قبلَ‮ ‬سرَيانِ‮ ‬المخدِّرِ‮ ‬في دمِي
تحلَّقتْ‮ ‬وجوهٌ‮ ‬كثيرةٌ‮ ‬حولَ‮ ‬رأسِي
والتهَمَتْ‮ ‬أذنيَّ‮ ‬شفاهٌ‮ ‬متباينةُ‮ ‬الغِلْظةِ‮ ‬
لا أقولُ‮ ‬أنها سبَّبتْ‮ ‬لِي صُدَاعًا
بقدرِ‮ ‬ما أكَّدَتْ‮ ‬إيمانِي بعِلْمِ‮ ‬الأَرْواح
بتحليلٍ‮ ‬فوريٍّ‮ ‬لنبرَةِ‮ ‬الحرفِ،‮ ‬ورعشة الصوت
حدَّدْتُ‮ ‬بكلِّ‮ ‬دِقَّةٍ‮ - ‬صِدْقَ‮ ‬الْكَلامِ‮ ‬مِنْ‮ ‬كَذِبِهِ
لم تُزْعِجْني كثيرًا‮ - ‬تلك الحالة
فقد آمنتُ‮ ‬منذُ‮ ‬طفولتي
أنَّ‮ ‬لي حاسَّةً‮ ‬سادسةً‮ ‬مُعَطَّلَةً
ستنْشَطُ‮ ‬يومًا مَا
2
أعترفُ‮ ‬أنني مُراوِغٌ‮ ‬جيدٌ
استطعْتُ‮ ‬بمعلوماتِي المُحَدَّدةِ‮ ‬أنْ‮ ‬أخدعَ‮ ‬الأطباءَ
علي مدارِ‮ ‬سبعِ‮ ‬سنواتٍ
كان الهروبُ‮ ‬من الجراحةِ‮ ‬هاجِسي الأكبرَ
هذا الصباحُ‮ ‬لم‮ ‬يدعْ‮ ‬للمماطَلَةِ‮ ‬معني
هل أموتُ‮ ‬قبل أن أُفِيقَ؟
وهل المخدِّراتُ‮ ‬ستقيني آلامَ‮ ‬انتزاعِ‮ ‬الرُّوحِ؟
يا لَفضِيحتي إذا بادَرَتْنِي نزَواتِي تحت تأثير المخدِّرِ‮!‬
هل‮ ‬يلتمسُ‮ ‬الناسُ‮ ‬لِي عُذْرًا إذا تمتمْتُ‮ ‬بعباراتٍ‮ ‬جِنسيةٍ؟
أم سيكتشِفُونَ‮ ‬مُراوَغَتِي؟
3
أما ما زادَ‮ ‬من عصبيَّتِي،‮ ‬رغمَ‮ ‬تأثير المُهدِّئاتِ
أنَّ‮ ‬كُلَّ‮ ‬مَنْ‮ ‬أحاطُوا بي ذكَّروني بشاعِريَّتِي
وأكَّدُوا أنَّهم‮ ‬ينتظرون قصيدةً‮..‬
تصفُ‮ ‬تجربتي الشعريةَ‮ ‬أثناءَ‮ ‬الجراحةِ
همْ‮ ‬لا‮ ‬يعلمونَ‮ ‬أن الشِّعرَ‮ ‬يُرْهِقُنِي
لم أبخلْ‮ ‬عليهم‮ -‬بيني وبين نفسي‮- ‬بالتماسِ‮ ‬العذرِ
فهُمْ‮ ‬لم‮ ‬يُجرِّبُوا معاناةَ‮ ‬الكتابةِ
بل‮ ‬يظنُّون أنَّ‮ ‬وصفَ‮ ‬شَعْرِ‮ ‬الحبيبةِ‮ ‬بالليلِ‮ ‬الطويلِ‮ ‬
هو قمَّةُ‮ ‬الإبداع
4
كيف‮ ‬يتلبَّسُنِي الشِّعْرُ،‮ ‬وأنا بغيرِ‮ ‬رأسٍ؟
نعمْ
لقد مكثْتُ‮ ‬بلا رأسٍ‮ ‬طوالَ‮ ‬وقتِ‮ ‬العمليةِ
أقولُ‮ ‬لكمْ‮: ‬لمْ‮ ‬أكُنْ‮ ‬نائمًا
أنا لا أنامُ‮ ‬أصْلا
أعدُّ‮ ‬الدقائقَ‮ ‬أثناءَ‮ ‬نومي بالليلِ
ولا‮ ‬يكادُ‮ ‬يزيدُ‮ ‬مُعامِلُ‮ ‬الخطأِ‮ ‬في حسابِ‮ ‬الساعةِ
أثناءَ‮ ‬نومي عن خمسَ‮ ‬عشرةَ‮ ‬دقيقةً
أينَ‮ ‬يتنزَّل الشعر إذا كنتُ‮ ‬بدونِ‮ ‬رأسٍ؟
إذا تنزَّلَ‮ ‬علي قلبي،
سيضخُّهُ‮ ‬مع الدمِ،‮ ‬فيتلاشَي في أحشائي
وإذا تنزلَ‮ ‬علي جوْفِي،
فليس به عضوٌ‮ ‬شفَّافٌ‮ ‬قدْ‮ ‬يلتقِطُ‮ ‬الإشارَةَ
وإذا تنزَّلَ‮ ‬علي أعضاءِ‮ ‬ذكورتي،‮ ‬سيتلوَّثُ
يا أصدقائي
أريدُ‮ ‬أنْ‮ ‬أصرخَ‮ ‬فيكُمْ‮: ‬ارحمُونِي
كفي جسدي ما ألمَّ‮ ‬به
لماذا تعذِّبون روحِي هكذا؟
5
كُلَّما تذكَّرْتُ‮ ‬أنِّي تخلَّيْتُ‮ ‬عنْ‮ ‬هذا العالَمِ‮ ‬ساعتين
أضطربُ
لا أزعُمُ‮ ‬أنِّي مُؤثِّرٌ‮ ‬في مساراتِ‮ ‬الأرضِ
وأعلم أني لستُ‮ ‬دافعًا في أيِّ‮ ‬اتجاهٍ
أنا أصلا‮ ‬غيرُ‮ ‬مقتنعٍ‮ ‬بمداري
الذي أسبح فيه منذ اثنتين وأربعين سنة
لكنَّ‮ ‬مراقبتي الدائمةَ‮ ‬للعالَمِ،‮ ‬
تُشْعِرُنِي بمسؤوليةٍ‮ ‬استثنائيَّةٍ
ستظلُّ‮ ‬هاتان الساعتان تُشعِلان حَيْرتِي
وسيظلُّ‮ ‬هذا السؤالُ‮ ‬الوحيدُ‮ ‬يطاردني
كيف كانَ‮ ‬حالُ‮ ‬العالَمِ‮ ‬في ذلك الوقتِ‮ ‬المُسْتَقْطَعِ؟
6
بحُكْمِ‮ ‬التَّخصُّصِ
أظنُّني ناقشْتُ‮ ‬أطبائي حولَ‮ ‬جرعةِ‮ ‬التخديرِ
وأعتقدُ‮ ‬أني طمأنْتُهُمْ‮ ‬قليلا
عندما ظنَّ‮ ‬أحدُهم أني مُقبِلٌ‮ ‬علي الموتِ
ارتبكْتُ‮ ‬عندما امتدَّتْ‮ ‬يداهُ‮ ‬لجهازِ‮ ‬الصدماتِ‮ ‬
لتنشيطِ‮ ‬قلبي
استطعْتُ‮ ‬بحيلةٍ‮ ‬لا‮ ‬يُجيدُها المرضَي العاديُّون
أن أستعيدَ‮ ‬سريانَ‮ ‬الكهرباءِ‮ ‬في جدارِ‮ ‬القلْب
دون حاجةٍ‮ ‬لتدخُّلٍ‮ ‬خارِجِيٍّ
أحسسْتُ‮ ‬بالعجْزِ‮ ‬فَقَطْ
عندمَا أردْتُ‮ ‬أن أصرُخَ،‮ ‬فلمْ‮ ‬أستطِعْ
7
طَغَتْ‮ ‬مهاراتِي علَي إدْراكِي
أنظرُ‮ ‬للزائرينَ،‮ ‬ولا أراهُمْ
أسألُهُمْ،‮ ‬فيجيبون،‮ ‬ولا أعي
لكنِّي لم أُخْطِئْ‮ ‬في رفعِ‮ ‬عَلامَةِ‮ ‬النَّصْرِ
لستُ‮ ‬متعجِّبًا من بقائي علي قيْدِ‮ ‬الحياةِ
إذْ‮ ‬لا داعي لانتهاءِ‮ ‬حياتي بشَكلٍ‮ ‬درامِيٍّ
في عمليَّةٍ‮ ‬بسيطةٍ‮ ‬كهذهِ‮!‬
8
كنت خائفا علي صورتي أكثر من حياتي
فكَّرْتُ‮ ‬أن أحلِقَ‮ ‬ذقْنِي
قاومْتُ‮ ‬بلا جدوي
خلعَ‮ ‬ملابسي الداخليَّةَ
ورغمَ‮ ‬إصرارِ‮ ‬المُمرِّضات
رفضتُ‮ ‬بالكاد‮- ‬أنْ‮ ‬أخلعَ‮ ‬الشورْت
هل سيستقبِلْنَ‮ ‬مغازلاتي اللاحقةَ‮ ‬بجدِّيَّةٍ؟
أم سوفَ‮ ‬يضحكْنَ‮ ‬سِرًّا،
ويتغامزْنَ‮ ‬مِنْ‮ ‬وراءِ‮ ‬ظهرِي
بعد أنْ‮ ‬وصلْنَ‮ ‬إلي آخرِي؟
أوَّلُ‮ ‬ما نطقْتُ‮ ‬بهِ‮ ‬بعدَ‮ ‬الإفاقةِ
كان لومًا لاذعًا لصديقِي
لأنه تركهنَّ‮ ‬يجرِّدْنَنِي تمامًا
9
لا أزالُ‮ ‬علي قيْدِ‮ ‬الحياةِ
لا بأسَ
قريبًا سأكونُ‮ ‬علَي قيدِ‮ ‬الموْت
10
لماذا نسيتُ‮ ‬المُصْحَفَ‮ ‬كُلَّهُ،
ولم تعدْ‮ ‬تُعاوِدُنِي سوي ثلاثِ‮ ‬كلماتٍ
‮"‬وَخُلِقَ‮ ‬الإِنْسَانُ‮ ‬ضَعِيفًا"؟