علاء عبد الوهاب هل تختلف الإجابة تبعا لموقع من يتصدي لها؟ بالتأكيد؛ تفرض زاوية الرؤية على المجيب صياغة موقفه، غالبا بكلمة واحدة، بعضهم وصفها بالتمرد، الاحتجاج، الاضطرابات، الحركة.. آخرون انحازوا لمفهوم الثورة، وإن بدرجات أو نقاط على مؤشرها، تحرك ثوري، موجة ثورية، انتفاضة شعبية، ثورة ناقصة،.. ثم إن هناك من رأى أنها مؤامرة! غير أن السواد الأعظم من المصريين، والمنصف من المراقبين، قالوا: انها ثورة.. وكفي. كل فريق كان يتسلح بحججه وأسانيده وحيثياته. إلا أن أخطر ما اعترى الأوصاف عدا الثورة، لم يمد بصره إلى المشهد السابق على 25 يناير، ولم يدقق بالقدر الكافى فيما أحاط بها من استهدافات دولية وإقليمية، بل أن بعض الفاعلين كان فى الحقيقة جزءاً من مخططات تهدف إلى تفعيل مفهوم »الفوضى الخلاقة«، تماما كما كانت هناك قوى دولية تنتظر على أحر من الجمر فرصة مواتية لاستكمال ما بدأته لفرض خرائط النار والدم لإعادة صياغة المنطقة العربية وتخومها، وفق ما أسمته مرة «الشرق الأوسط الجديد»، وأخرى «الواسع»، وثالثة «الكبير».. المهم أن تتمزق الدولة الوطنية، وتضيع الهوية القومية. من ثم؛ فإنه لا يمكن قراءة المشهد الذى احتضن الأيام الثمانية عشر المجيدة التى بدأت صباح يوم 25 يناير 2011، بمعزل عما قبلها؛ سواء الماضى القريب جدا – آنذاك – حينما تسارعت الأحداث التى مهدت لوضع كلمة النهاية لدراما نظام مبارك، بعد 30 عاما من الحكم، أو ما سبقها من سنوات تمثل ماضياً أبعد قليلاً، لكنه يشكل وحدة زمن، تصنع فى مجموعها حقبة ربما كانت الأصعب فى تاريخ مصر المعاصر. المهم، إنه فى صباح ذاك اليوم – قبل 5 سنوات. أصبح التغيير ضرورة حتمية لا تقبل التأجيل. نظام شاخ وتكلس رافضا أى تكيف أو تجاوب – ولو جزئيا – مع المطالب، والضغوط، التى تجمعت فى الأفق حتى باتت توترات مزمنة، والنظام أعجز حتى من أن يقرأ الدلالات الواضحة. شعب ضج من ممارسات ظالمة، لطغمة مستبدة، وحاكم لا يشعر بشعبه، بل يحرض حاشيته لأن تنظر إلى من يطالبون بالتغيير على أنهم «فرجة»! خمائر رفض، واحتجاجات على الظلم، ومظاهرات فى المدن وأمام النقابات، بينما النظام يواصل اخفاقاته، ويصر على التعامى عن المطالب المشروعة – ولو فى حدها الأدنى – حتى بلغ نقطة الذروة فى إفلاسه، ورغم أن الذين خرجوا فى 25 يناير كانوا يرفعون شعارات ومطالب متواضعة لا تصل إلى حد الثورة، إلا أن غباء النظام الأصم دفع الأمور سريعا إلى و جهة التغيير من أوسع أبوابه: الثورة. تسارع إيقاع الأحداث، بعد عقود من الآلام والمعاناة، وبينما كان النظام متأخرا – كعادته – فى استجاباته، كانت حركة الشارع أسرع بكثير مما يتصوره الجميع، لاسيما من كانوا يظنون أنهم يسيطرون على مقاليد الأمور بقبضة من حديد، ثم أن هناك من كان يقبع متحينا فرصة تسنح ليثب راكبا الموجة، منفردا بجنى الثمار، غير عابيء بدماء الشهداء، أو نزيف الوطن عبر سنوات طوال. وانتقلت جذوة الثورة من ميدان التحرير بالقاهرة إلى السويس، الإسكندرية، المنصورة، دمنهور، الزقازيق، و... و.... وما لبث أن أصبحت مصر بكل مدنها وشوارعها ميادين تحرير ترفع شعارا واحدا: إسقاط النظام، مطالبة بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة و... و.... ولم يكن الجيش الوطنى بعيداً عما يدور، فانحاز دون تردد إلى الشعب وعبر 18 يوما خالدة مجيدة كانت مصر كلها على قلب رجل واحد، وكان العالم يراقب ويرصد، وربما يستكثر على المصريين ثورتهم! إعجاب ممزوج بدهشة مرة، وممزوج مرات عدة بمشاعر سلبية، وشر مضمر، وضغوط وتهديدات بعضها واضح وقح، وأخرى مبطنة لكن فى الحالتين فإن الهدف واحد: جر مصر إلى مستنقع الفوضى الخلاقة، وفرض خرائط النار والدم على شعبها الأبى. كان التشكيك فى الثورة التكتيك الأبرز، ومازال. كانت محاولات شق الصف بين المصريين شعبا وجيشا تجرى على قدم وساق، ومازالت. وفى ظل ثورة بلا قيادة، ولا تنظيم، ولا استراتيچية، فإن المناخ مواتٍ لكل من يداعب خياله ظلال المؤامرة! وكان هؤلاء جميعا لا يملون من طرح ذات السؤال: هل 25 يناير- حقاً- ثورة؟ ولأنهم يتمنون الإجابة ب: «لا» لم يقرأوا المشهد بأمانة وموضوعية، لم يكلف أحدا منهم نفسه أن يقرأ سطوراً بعينه من أى كتاب تناول «علم الثورة». لم يعرف هؤلاء – غالبا – عن عمد، انه لا يوجد «كتالوج» لمفاهيم سابقة التجهيز للثوارات. لم يع هؤلاء- أيضاً- أن ثمة تفسيرات لنظرية الثورة ومفهومها، ومن ثم تطبيقاتها. كانوا- كذلك- أسرى النماذج الأساسية للثورات التى صارت من كلاسيكيات العلوم السياسية، أو تلك التى صنعوها على أعينهم بعد إسقاط الاتحاد السوڤييتى، عبر ربع قرن، ويظنون أنها «الكتالوج الجديد» الذى لا يأتيه الباطل، والقابل للتطبيق فى أى مكان! الأخطر من كل ذلك أن جهلهم بعلم الثورة – فى الأغلب عن عمد – قادهم إلى أخطاء قاتلة فى الحساب. ولأن ليس كل القديم بالياً، ولا كل الجديد صالحاً للقياس عليه، فإن من لم يصدقوا ما يرونه ماثلا على أرض مصر يتناسون- بإصرار- أن الثورة علم، وأن الكثير مما يرتبط بفكرة المراحل مازال ساريا، لكن بمرونة تتناسب مع طبيعة وخصوصية كل ثورة. فى حالة 25 يناير فإنها ليست بعيدة عن فكرة مراحل الثورة، بالتطابق مرة، والتقاطع أخرى. مرت ثورتنا- تقريباً- بالمراحل الخمس التى أشار إليها منظرو علم الثورة، فكانت المرحلة الأولى منها تنشد الكمال فيما طرحته من شعارات، خاصة أن الثوار لم يحكموا أو يكونوا جاهزين للتصدى لمهام الحكم، وإذا كانت الكتب تتحدث عن انقسام بين المتطرفين والمعتدلين فى صفوف الثوار، فإن الأمر اختلف فى حالة 25 يناير، فالانقسام كان بين الوطنيين المخلصين وأصحاب الأچندات التى تتلاقى مع امتدادات إقليمية ودولية بأكثر مما تعبر من طموحات وآمال وطنية خالصة، ومع ذلك فإن المرحلة الثالثة التى تشمل الجهود المضنية لتحقيق أهداف الثورة شهدت تجمع نذر خلاف جذرى بين من صعدوا إلى سدة الحكم، والسواد الأعظم من الشعب، لأن من حكموا انحرفوا بوقاحة عن أهداف الثورة، فكانت الموجة الثانية من الثورة فى 30 يونيو 2013. حملت تداعيات هذه الموجة فى طياتها المرحلة الرابعة للثورة التى يصفها المنظّرون بأنها فترة النقاهة الثورية- إن جاز التعبير- التى تفضى بدورها إلى المرحلة الخامسة حين يصل إلى سدة الحكم من ماتزال تجرى فى شرايينه حيوية الأمانى الثورية. من ثم؛ فإن الأحاديث التى تبشر بثورة على الثورة، أو الترويج لفكرة الثورة الدائمة/ المستمرة يصبح لا محل لها من الإعراب فى سياق المشهد، وإن كان الكثير من الأحلام والغايات مازال بعيدا، والوصول إليه مازال صعبا، فإن التغيير من وضع الحركة يبقى الخيار الأفضل فى الحالة المصرية، عبر السعى الحثيث لإحداث تغييرات نوعية فى الحياة الاقتصادية والسياسية والفكرية، استهدافاً لثورة ثقافية تفضى إلى تحول فكرى جذرى فى النظرة للحياة والعلاقات الإنسانية ترتبط- بدورها- بالدعوة إلى التقدم والنهضة، من ثم فإن مشواراً طويلاً شاقاً مازال بانتظارنا. ولأن الكلمة الأخيرة فى سجل أى ثورة لم تكتب بعد، حتى لتلك التى وقعت قبل قرون، فإن «كتاب اليوم» كان حريصاً على أن يشارك بجهد متواضع فى سجل 25 يناير، بالكاميرا والكلمة، ولعل الصورة دائماً أصدق وأدق فى توثيق الحدث، كما أن النظر من عدة زوايا لنفس الحدث تصنع ما يشبه البانوراما أمام عين المتابع المهموم بحاضر ومستقبل وطنه، وهو ما عمدنا إليه تماماً عبر هذا الكتاب/ الوثيقة.