لقد أصبح داود عليه السلام نبيا ملكا، أوتي الحكمة، وحكم الناس بالعدل، واتسعت دائرة ملكة »ونفوذه« علي فلسطين وما حولها من بلدان وأحكم سيطرته علي الحكم. لقد تولي الحكم عندما كان عمره ستين عاما وظل حاكما قويا لمدة أربعين عاما، وانعم الله عليه بكثير من النعم. كان »عذب الصوت« جميل الأداء وهو يرتل المزامير يسبح بها الله.. لقد آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب. يقول الله سبحانه وتعالي »ولقد آتينا داود منا فضلا ياجبال أوبي معه والطير والنا له الحديد، وأن أعمل سابقات وقدر في السرد واعملوا صالحا اني بما تعملون بصير«. سبأ 01 - 11 وقال تعالي: : وسخرنا مع داود الجبال يسبحن والطير وكنا فاعلين، وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم فهل أنتم شاكرون«. الأنبياء 97 - 08 فقد أعانه الله علي عمل الدروع من الحديد، فكان ماهرا في هذه الصناعة. كما أن الجبال والطيور كانوا يسبحن مع داود في العشي والاشراق. قال تعالي في سورة (ص) »اصبر علي ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب، إنا سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والإشراق. والطير محشورة كل له أواب«. ويفسر هذه الآيات صاحب (صفوة التفاسير) بقوله: »أي وتذكر عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر، ذا القوة في الدين، والقوة في البدن، فقد كان يصوم يوما ويفطر يوما، وكان يقوم نصف الليل (إنه أواب).. أي كثير الرجوع والإنابة إلي الله، والأواب: الرجاع إلي الله. قال أبوحيان: لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين، أمر تعالي نبيه بالصبر علي أذاهم، وذكر قصصا للأنبياء.. داود وسليمان وأيوب وغيرهم، وما عرض لهم فصبروا حتي فرج الله عنهم، وصارت عاقبتهم أحس عاقبة، فكذلك أنت قصير ويئول أمرك إلي أحسن مآل. »إنما سخرنا الجبال معه يسبحن بالعشي والاشراق« أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح، وتسبيح الجبال حقيقة، وكان معجزة لداود عليه السلام كما قال تعاليك: ياجبال أوبي معه والطير« (الطير محشورة كل له أواب« أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبح معه، كل من الجبال والطير رجاع إلي طاعته تعالي بالتسبيح والتقديس. قال ابن كثير: كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجع بترجيعه اذا مر به الطير وهو سابح في السماء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبح معه، وكذلك الجبال الشامخات كانت ترجع معه وتسبح تبعا له. قال قتادة: »أواب«.. أي مطيع. (وشددنا ملكه) أي قوينا ملكه وثبتناه بالهبة والنصرة وكثرة الجنود«. (وآتيناه الحكمة) أي أعطيناه النبوة والفهم والاصابة في الأمور. »ونصل الخطاب« أي الكلام البئن الذي يفهمه من يخاطب به. قال مجاهد: يعني اصابة القضاء وفهمه وقال القرطبي: البيان الفاصل بين الحق والباطل. قال المفسرون: كان ملك داود قويا عزيزا، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معا، ويقطع ويجزم برأي لاتردد فيه مع الحكمة والقوة، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان.
وتمضي خطأ الأيام.. وداود يحكم بلاده بالحكمة ونصل الخطاب. وتورد بعض المراجع أن داود خرج ذات يوم إلي سطح قصره، فأبصر امرأة تغتسل علي سطح منزلها، كانت جميلة بالغة الجمال، وعندما نظر إليها، أخذ تستتر بشعرها فزادها ذلك جمالا، وكان من الطبيعي وقد تعلق قلبه بها أن يسأل عنها، وعرف أنها زوجة (أوريا الحثي).. أحد قواده.. كانت رغبته في هذه المرأة شديدا، حتي أنه آثر أن يرسل زوجها في أحد المعارك، ولو قتل في هذه المعركة فسيخلو له الجو ويتزوجها، وخرج إلي أوريا بالفعل للقتال، وقتل في أحد المعارك التي كان يخوضها، وبالتالي أستطاع أن يتزوج من هذه المرأة التي فتن بها! ويقال أنه بلغ عدد زوجاته مائة!
عاد داود إلي عبادته.. وفي أحد الأيام جاء رجلان يلتمسان مقابلته، ولكن الحراس أخبروا الرجلين بأنه لايقابل أحدا عندما يتفرغ للعبادة، فما كان من هذين الرجلين إلا أن تسلفا السور، ودخلا عليه وهو مشغول في عبادته. وهاله أن يجد نفسه وقد جلس أمامه هذان الرجلان، وانتبابه بعض الخوف، ولكنه أراد أن يعرف مرادهما من دخولهما عليه في مكان عبادته. قالا له. - لاتخف، نحن خصمان بقي بعضنا علي بعض، فاحكم بيننا بالحق. وسمع شكواهما.. قال أحدهما - إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة، ولي نعجة واحدة، إنه يريد أن يأخذ نعجتي ليكمل نعاجه مائة!! : قال الأخر يريد أن يشرح وجهه نظره بأنه أخذ هذه النعجة ليكمل بها نعاجه وتصبح مائة. وتعجب داود من هذا الخصم الذي يأخذ نعجة الرجل لتصير مائة نعجة.. إنه لم يقنع بما لديه من نعاج، ويريد أن يأخذ نعجة الأخر بلا حق. ولم يعجب داود قول الرجل الذي يسطو علي حق الأخر بلا حق ولامبرر، وقال لهما أنه لاينبغي أن يفعل ذلك الرجل بالأخر ما فعل وأنه يستحق العقاب. حينما قال الرجل لداود. - كيف تعاقب الرجل الذي أخذ حق الآخر ولاتعاقب نفسك، فأنت فعلت مثل ما فعل، فإن لك تسعا وتسعين زوجة ولم يكن لقائدك (أوريا) إلا امرأة واحدة فأخذتها بعد ان بعثت به إلي ميدان القتال ليقتل!! وسرعان ما اختفا الرجلين.. هنا أدرك داود أن هؤلاء اللذين جاءوا إليه ما هما إلا ملكين جاءا ليخبراه بالخطأ الذي وقع فيه، وهنا أيقن داود مقدار ما دفع فيه من ابتلاء.. فخر ساجدا يبكي.. يطلب من الله العفو والمغفرة. ويصف القرآن الكريم هذا المشهد بقوله المعجز في سورة (ص): وهل أتاك نبأ الخصم إذ تصوروا المحراب. إذ دخلوا علي داود ففزع منهم قالوا لاتخف خصمان يغي بعضنا علي بعض فاحكم بيننا بالحق ولاتشطط واهدنا إلي سواء الصراط، إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال اكفلينها وعزني في الخطاب، قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلي نعاجه وان كثيرا من الخلطاء ليبغي بعضهم علي بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب. فغفرنا له ذلك وان له عندنا لزلفي وحسن مآب« . وإلي العدد القادم