كان انتصار داوود علي جالوت.. إيذانا بانتصار بني اسرائيل.. وكان ذلك إيذانا بأن ينتشر اسمه بين الناس كمقاتل لايشق له غبار، ولايهاب أحدا إلا الله. كما أن طالوت أصبح يدين له بالفضل ووعده بأن يزوجه من ابنته (ميكال). وأصبحت كل الأصابع تشير الي مستقبل باهر لهذا الشاب الشجاع.. الوسيم الطلق.. النقي القلب.. طاهر الوجدان بأن له مستقبلا باهرا.. وكيف لا.. وأن الله اصطفاه بعد ذلك ليؤتيه النبوة والملك والحكمة. »وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه ما يشاء«
وتمضي خطي الأيام ويتزوج داوود عليه السلام من ابنة طالوت »ميكال«.. كانت ميكال تحب داوود حبا شديدا.. وأحب الناس داوود لملكاته الكثيرة وشجاعته، وتخليص الشعب من قسوة جالوت، واعادته الهيبة لبني اسرائيل، لكن يبدو ان هذه الشعبية الهائلة لداوود.. قد أوغرت قلب طالوت ضده وأراد التخلص منه، وعزم النية علي قتله.. غير ان شقيق زوجة داوود (يوناثان) كان يحب زوج أخته داوود ويقدره، فحذره من طالوت.. وهرب داوود عليه السلام من وجه الملك، ولكن الملك أخذ يبحث عنه ويتعقبه في كل مكان، حتي عثر عليه وهو يصلي خاشعا لله مع النبي صمويل.. أمام هذا المشهد.. انب طالوت ضميره، وتذكر أن الله سبحانه وتعالي أكرمه عندما اختاره ملكا علي بني اسرائيل.. عاد اليه رشده.. ولكن سرعان ماعادت الغيرة تنهش صدره وقرر التخلص من داوود خوفا من أن يأخذ السلطة من ابنه (يوناثان).. وكان داوود قد هرب الي أحد الكهوف، وعلم الملك بمكانه.. ولكنه نام من التعب في أحد هذه الكهوف، ورآه أحد رجال طالوت، ورغم تمكن داوود منه الا انه رفض أن يقتله وهو نائم، وقال لمن حوله -حاش أن أقتل رجلا اختاره الله ملكا لبني اسرائيل. وعندما استيقظ ورأي وسمع داوود الذي أظهر له الخاصه، عاوده الندم من جديد.
وحدث ان جابه بني اسرائيل بقيادة طالوت جنود الفلسطينيين، وانهزموا امام هؤلاء الجنود، وقتل في هذه المعركة ابنه »يوناثان«، وشعر طالوت بالحزن الشديد لقتل ابنه، ورأي أن الحياة لا معني لها بعد ان فقد ابنه يوناثان، وسرعان ما صرع طالوت في هذه المعركة.. وانتصر الفلسطينيون. يقول عبدالحميد السحار عن هذا الحدث: »وشعر داوود بالحزن يعتصره، وفاضت في نفسه مشاعر الحب للملك الراحل، وليوناثان الصديق، فراح يندبهما في صوت حزين: »مجدك يا اسرائيل صريع علي شوامخك كيف سقط الجبابرة. لاتذكروا هذا النبأ في جت ولاتذيعوه في شوارع اشقلون لئلا تفرح الفلسطينيات لئلا تشمت بنات الأجلاف يا جبال جبلوع لاتدعي الطلل ولا المطر يتساقط عليك ولا المراعي تنبت علي سنوحك لأن هناك القي مجن الجبابرة مجن طالوت دون ان يمسح بالدهن المقدس ان الحبيبين طالوت ويوناثان لم يفترقا في حياتهما. وهاهو ذا الموت يجمع بينهما كانا أخف من النسور، واشد من الليوث يابنات اسرائيل ابكين علي طالوت بالدمع الهتون طالوت الذي دثركن في الدبياج وجعلكن ترفلن في ثباب موشاة بالذهب. كيف سقط الجبابرة في وسط المعمعة يايوناثان، يامن قتلت. ان حزني عميق عليك يا يوناثان كنت لي حبيبا وكان حبك لي عجيبا يفوق حب النساء كيف سقط الجبابرة ونكسرت أدوات القتال؟!
وبعد وفاة ابن طالوت الذي كان قد تولي الملك بعد ابيه، اصبح داوود نبيا ملكا، بعد ان اوحي اليه »ياداوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله.. ان الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب«. ويشرح هذه الآية صاحب (صفوة التفاسير) يقوله: »يا داوود انا جعلناك خليفة في الأرض« أي استخلفناك علي الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم، (فاحكم بين الناس بالحق).. أي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي انزلها عليك. »ولا تتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله« أي لاتتبع هوي النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوي عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم. »إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد« أي الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة. »بما نسوا يوم الحساب«.. أي بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم ايمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا لأعدوا الزاد ليوم الميعاد. قال أبوحيان: وجعله تعالي داود خليفة في الأرض يدل علي مكانته عليه السلام، واصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب اليه شيئا مما لايليق بمنصب النبوة. وهنا يجب ان نتوقف عند حكاية حكاها صاحب صفوة التفاسير. روي ابن كثير ان ابا زرعة دخل علي الوليد بن عبدالملك فقال له الوليد: أخبرني أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت القرآن وفقهت؟! فقال: يا أمير المؤمنين أقول؟ قال: قل في أمان الله. قال: - يا أمير المؤمنين: أنت أكرم علي الله أم داوود عليه الصلاة والسلام؟ ان الله تعالي جمع له بين الخلافة والنبوة ثم توعده في كتابه فقال: »يا داوود انا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولاتتبع الهوي فيضلك عن سبيل الله«. فكانت موعظة بليغة.
لقد أتي الله سبحانه وتعالي الملك والحكمة لداوود وعلمه مايشاء.. واتسعت رقعة ملكه، واصبح مهابا.. قويا.. وفي نفس الوقت ورعا تقيا، وأنزل عليه الزبور، وهو عبارة عن ترانيم في تسبيح الله وحمده والثناء عليه والتضرع له. والاقرار بالضعف أمام عظمة الخالق للفوز برضاه ورعايته. »ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر ان الأرض يرثها عبادي الصالحون«. ومن ترانيم داوود ما كان يردده في وحدته: »عند دعائي استجب لي يا الهي«. يا من جعلت لي من ضيقي فرجا واملا، فكن ربي رءدنا واستمع لصلاتي« »إليك يارب ارفع نفسي.. يا الهي.. عليك توكلت، فلا تدعني اخزي، ولاتشمت بي الأعداء«. ولا تغر من الأشرار، ولاتحسد عمال الاثم فانهم مثل الحشيش سريعا يقطعون، ومثل العشب الأخضر يذيلون«. »اتكل علي الرب وافعل الخير« اسكن الأرض وارع الأمانة تلذذ بالرب فيعطيك سؤال قلبك سلم للرب طريقك واتكل عليه وهو مجري« »كف عن الغضب واترك السخط« ولاتغر لفعل الشر« »لان عاملي الشر يقطعون، والذين ينتظرون الرب هم يرثون الأرض«.
واعطاه الله سبحانه وتعالي العديد من النعم بجانب ما اعطاه من النبوة والملك والخلافة. والي العدد القادم