الأثنين: دلت الحوادث الأخيرة علي ان الشعب هو المصدر الحقيقي للقوة والسلطان، وأنه مهما يكن تحمس القائمين علي السلطة فلا قيمة له إذا لم يتجاوب مع تحمس مماثل يصدر عن الشعب.. وأغلب الظن ان امريكا وأعوانها أرادوا بمسلكهم الاخير، أن يختبروا قوة هذا التجاوب، وأغلب الظن أنهم أدركوا وجوده بعد ان كانت صورته مشوهة أو مهزوزة في أذهانهم، فلعلهم حسبوا ان التغيير الذي حدث في مصر قد اغضب فريقا واقصي فريقا، وانهم مستطيعون أن يهزوه بضربه من الخارج. وهذا وهم يقعون فيه دائما، فإنه مهما يكن وضع الجبهة الداخلية، فلاشك أنها تتضامن وتتماسك اذا تعلق الامر بتدخل يأتي من الخارج، وقد كان هذا دأب الوطنية المصرية دائما، تنصهر في المحن، وتزكو مع المصائب. ولم تكن الجبهة المصرية سليمة مائة في المائة سنة 9191 بل لعلها لم تكن موجودة اصلا، ومع ذلك فحينما اعتدت السلطات البريطانية علي سعد زغلول واصحابه، ادهشهم ان اشتعلت مصر بالنار من اقصاها الي اقصاها. وحينما اعتدي علي الدستور في سنة 5291 وبدا خلال الحوادث وجه الاستبداد الكريه، ائتلفت الاحزاب واجتمعت قوي الاحرار، ووقفت سدا منيعا في وجة الطغيان. وفي سنة 5391 كانت الجبهة الداخلية تبدو وكأنها نسيج العنكبوت، فما هي الا صيحة من صيحات الشباب، حتي اضحت في صلابة الحديد. وفي اكتوبر سنة 1591 كانت الجبهة الداخلية اشبه بالحرم المستباح، ولكنها انقلبت نارا تتلظي حينما الغيت المعاهدة وذهبت جموع الشباب الي القناة. يخطيء اذن من حسبوا ان في استطاعتهم ان يستغلوا الخلافات السياسية حول نظام الحكم ووسائله لمصلحتهم، فإن مصر استيقظت، وهي اذ تهدف الي تقرير الحريات في الداخل والتخلص من النظام الفاشي، توقن ان السياج الاول لهذه الحريات وطن مستقل كريم، لا تهدده سلطة اجنبية. هل التدين عادة! الثلاثاء: ملأ صاحبي الدنيا دعاية في أول رمضان أنه صائم.. كاد يقول لطوب الأرض، كان فرحا أنه انتصر علي ضعفه، كان يشعر بمهانة في السنوات الماضية اذ يفطر وغيره يصوم. وانقضي اليوم الأول ، وحينما ضرب مدفع الافطار، أكل وشرب ودخن واثني علي الله جل جلاله ان وفقه الي الخير وهداه. والتقيت به في اليوم التالي. قلت لعلك علي عزمك، لعل الله لا يزال يسبغ عليك من فضله سكت علي غير عادته وقال: عندي قضية غدا، لابد ان استعد لها. قلت: لم أفهم. قال: هل لابد أن اصرخ؟ ومد يده في جيبه واخرج علبة السجائر وتناول منها سيجارة، وأخذ ينفث دخانها في الهواء، في اسف وندم. وسكت، ولكنه شرح الموقف قائلا: لم أتعود الصيام فيما مضي، وقد تقدمت في السن، واصبح من الصعب تكوين عادات جديدة، أن التدين عادة. فقراء.. لكنهم سعداء! الأربعاء: رأيته في المساء، مثقل الخطي، وأهن العظم، يجر ساقيه ومعه طفله غضة لعلها ابنته. وراءهما طفل اخر وامرأة في مثل ثوب الفقر الذي يرتديه الرجل وابنته.. ربما كانت المرأة زوجة الرجل، وربما كان الطفل الذي تقوده ابنهما ايضا.. فلم اتبين من امرهم الا هذا الذي رأيت. كانوا صحبة، الرجل يتعثر، لانه- فيما يلوح- كليل البصر، والمرأة في كل عثرة تهتز وتشفق وتحذره من السيارات والعربات. وكان الشارع مكتظا مملوءا بالحركة والحياة. كل يذهب مسرعا، ضحكات ناعمة، وسيارات فاخرة، وعطور زاهرة، ودنيا تموج، والرجل المسكين الكفيف وعائلته الصغيرة يسيرون كالغرباء!. وهل لهم مكان في شارع انيق كشارع قصر النيل؟ رأيت الفقر والثروة متجاورين.. كانت الطفلة تنظر مبهورة، وسألت اباها: العيد بعد يومين فتمتم الرجل ولم يجب، وسألت امها.. العيد فاضل عليه يومين!. فطافت بوجهها سحابة قاتمة اثارتها بسمة باهته وربتت علي كتف طفلتها وقالت: ربنا يحميك يا بنتي. أدعي ربنا يشفي أبوك! لا مكان للعيد بينهم، معهم الفقر والمرض، ومع ذلك كانوا يبتسمون، الطفل والطفلة لاهيان لا يدريان شيئا، والاب والام كان الرضاء لهم كساء، وكان الصبر وفاء، والله يرسل عليهم من سماته الشعاع. كم من البيوت باتت ليلتها مطفأة الشموع، وكم من البيوت ماجت بالزهر وفاحت بالعطر، ولكن هل كان العيد حتما مع البيوت المضيئة؟ كلا كثيرا ما يكون أزهي في الاكواخ المطفأة لأن لاصحابها قلوبا مضيئة!. الأنوثة كنز المرأة الخميس: رأيت مساء أمس فتاة في جمع من الرجال تضع ساقا علي ساق، وتنفث دخان سيجارتها في فن كالرجل المدمن علي التدخين.. وكانت تجادل بصوت عال، وفي حماسه وعبارة حادة.. ودخلت فتاة اخري وجلست صامته في وجه ملأه الخجل حمرة فاتنة، وسكت الرجال والتفتوا اليها، وحاولوا ان يجذبوها الي موضوع الحديث فلم ترفض أو تقبل، ولكن أجابت بابتسامة مشرقة، وعرضوا عليها سيجارة، فإزداد وجهها احمرارا، وارتبكت، ولم تدر بماذا تجيب، فاكتفت بأن ابتسمت مرة أخري، وهزت رأسها فتناثرت جدائل شعرها. وغاظ الفتاة الأولي ان كان مشرق صاحبتها بداية مغيبها، فأخذت تحاول ان ترد الحديث الي ما كان له من ضجيج وتحمس، واشعلت سيجارة اخري، ولكن الانظار، انظار الرجال كانت قد اتجهت الي الضيفة الجديدة، كان فيها غموض حلو، وسكون مثير، وصمت كأنه النداء. لم تكن الضيفة تتحدث الا في صوت خفيض، وكانت اجاباتها قصيرة فيها نغم رقيق، لم تكن تتفلسف كصاحبتها، أو تحاول ان تجعل من نفسها دائرة الحديث.. كان واضحا ان الحياء يربكها والخجل يشملها فتغض من بصرها، ومع ذلك فقد كان الرجال جميعا ينظرون اليها، ويحتفلون بها، كشف جمالها الوديع الخجول، شمس صاحبتنا المدخنة الثرثاء. وقال صاحبي يحدثني بعد ان انصرفت الفتاتان هل رأيت كيف استولت الضيفة الصغيرة علي مشاعرنا جميعا، ولم تكن اجمل من صاحبتها، ولا أفصح ولا اكثر علما؟ قلت: كان فيها ما هو أعظم من الجمال والفصاحة والعلم، كانت فيها انوثة بكر، تتفتح في حياء وسحر، كما تتفتح الزهور.. اما صاحبتها فقد اخذت منا نحن الرجال كل شيء.. نفثة الدخان الكريه، والصوت المرتفع، والعبارة الحادة.. لم يبق فيها شيء ليس فينا.. كنا نحدثها كرجل. قال صاحبي: ولكن الي هذا الحد؟ قلت: والي اكثر منه.. ان الانوثة كنز المرأة.. فإذا فقدتها لم يغنها عنها جمال ولا علم ولا منصب ولا مال. وقد اعجبني كاتب امريكي لخص الفرق بين النوعين في عبارة جميلة قال: كانت الفتاة فيما مضي ترتبك اذا خجلت، اما اليوم فإنها تخجل اذا ارتبكت». شبح الماضي! الجمعة: هي: لم أعد اصدقك، فلا تحاول اغرائي أو التأثير علي إن كلماتك التي اسمعها ما هي الا كلمات مكررة ومعادة، تقولها لكل فتاة تريد ان توقعها في شباكك.. هو: اقسم لك أنني أحبك، ولم أقل لك إلا الصدق. هي: وكيف لي أن أصدقك!! هو: ألا يكفي هذا القسم؟ هي: قد يكون كافيا لو صدر من إنسان غيرك!! هو: إذن أنت لا تثقين بي؟ هي: ومغامراتك النسائية التي سمعتها منك!! هو: هذه المغامرات اصبحت ماضيا، وذهبت بلا رجعة؟ هي: ليتني أستطيع أن اصدق كلامك. هو: قبل أن التقي بك كنت أشعر بالضياع، والآن وأنت معي أشعر بكياني ووجودي.. وما اتمناه هو ان نبدأ معا حياة شريفة طاهرة. هي: وماضيك.. وكلام الناس عنك في كل مكان، كيف تطلب أن أواجه المجتمع وأنا معك؟ هو: جمالك سيجعلك تنسين هذا الماضي، وسيمنحك الشجاعة والقوة في مواجهة المجتمع. هي: كان اهون علي أن يكون ماضيك مجهولا لي، ولكني الآن وبعد ان عرفته سيظل شبحه يطاردني في كل لحظه، ولن يتركني اعيش في هدوء وسلام، أرجوك اتركني، وابحث لك عن إنسانه غيري لا تعرف شيئا عن ماضيك! هو: هل هذا هو قرارك الأخير؟ هي: ترمقه بنظره لا معني لها وتتركه وتمضي في طريقها.. وأخذ يفكر الي متي سيظل هذا الماضي يطارده، والي متي سيعيش هذه الحياة غير المستقرة وهل سيجد يوما المرأة التي تغفر له ماضيه، وتمنحه الحنان والحب والدفء، أم أنه لن يجد هذه المرأة، وسيظل يعاني من الضياع!!.