عندما نكتب لمجلة اسبوعية، تظهر معضلة أمام الكاتب وهو الفارق الزمني بين وقت تسليم المقال إلي ادارة المجلة واليوم الذي تصل فيه إلي يد القاريء، فهناك علي الأقل عدة أيام، والأيام في هذه الفترة المهمة والحاسمة في تاريخ الوطن ليست كسابقيها لأنها أيام حبلي بكل ما هو جديد وبكل ما هو مصيري ومن هذا المنطلق قد نكتب اليوم وقد يبدو ما كتبناه ساذجا وغير مقبول، فمن المؤكد أن الأحداث تتلاحق وتسبق الأفكار مهما كان نوعها أو كيفيتها! هل نكتفي بالحديث القدسي الذي قد يعبر بشكل دقيق عن حالتنا رفعت الأقلام وجفت الصحف« ونجلس في بيوتنا أمام شاشات الفضائيات وهي تنقل لنا مباشرة الأحداث من هنا وهناك أم أن هناك ضرورة أن تحط اقلامنا بملاحظاتنا عما يدور حولنا وأمامنا ولامانع أن نضيف في هذا المقام كلمة خلفنا، وخلفنا هنا في رأيي هي الأهم في هذه الفترة الزمنية من حياتنا، فأمامنا وحولنا أمور واضحة الصورة وعالية الصوت ولاتحتاج إلي أعمال الفكر أما ما يدور خلفنا فهو حجر الزاوية الذي يعتمد عليه تحديد معالم الطريق الذي يؤدي في نهايته إلي تيتر النهاية التي أحيانا تكون سعيدة تنال التصفيق أو مؤلمة وحزينة تدفع المشاهدين إلي ذرف الدموع ومصمصة الشفاه! القلم أصبح أو يكاد أن يصبح، ونرجو من القاريء العزيز أن يعذرنا عندما نخلط الماضي بالحاضر فالاحداث كما ذكرنا تتسارع اكثر بكثير مما نفكر فيه، القلم الذي كدنا أن ننساه تحول إلي عبء بين أصابع الكاتب بعد أن كان أداة جميلة تحول ما يدور في رؤوسنا إلي صفحات في مطبوعة ينتظرها القاريء ليجد فيها شيئا يشفي غليله أو يرد علي تساؤلاته! شاهدنا الشاب الرائع »وائل غنيم« بعد الأفراج عنه مباشرة وهو يتحدث من قلبه إلي الرائعة »مني الشاذلي« ورأينا فيه نموذجا عظيما للشباب المصري الذي تواري لفترة طويلة من الزمن خلف الأمور التافهة وهي كثيرة وكدنا أن نتأسي من هؤلاء الشباب الذين بدونهم تلقي الأوطان محلك سر، فإذا بوائل غنيم هو وأقرانه يمسحون في أيام قليلة جميع الاتهامات التي علقت بشباب مصر وتحولت مصر جميعها بكهولها ومسينها بفلاحيها وعمالها ليصبحوا »وائل غنيم« ويالها من حقبة تاريخية لاتزال نصوصها تكتب بأحرف من نور لتضييء وتحرك كل مكوناتنا العقلية والجسدية التي نكاد نراها وهي تتغير وتتخلص من كل ما هو راكد وهامد وجامد وتخليق منا مواطنين جددا غير هؤلاء الذين كانوا يملأون شوارع وأزقة وحقول أرض مصر! الوطن يتجدد ويلقي الجلد السميك الذي أحاط به من كل جانب بعيدا، ويتخلص من كل تبعاته التي كانت تضللها العبارة الشهيرة أنه ليس هناك في الامكان أفضل مما هو كائن وأن المصريين لايستحقون الا أن يبقي كل مواطن في مكانه يملأ جوفه بعدة لقيمات تبقيه علي قيد الحياة، فهو مواطن لم ينضج بعد، ولم يتهيأ بعد لممارسة الديمقراطيية فالطريف أمامه طويل طويل وأن سياسة الخطوة المتأنية هي التي تحفظ الوطن من الوقوع في براثن الفوضي، فهكذا كنا نسمع من كبار المسئولين ومع الأسف سمعناها مؤخرا من مسئول كبير في حديث لشبكة تليفزيونية أمريكية أن الشعب المصري ليس مستعدا لممارسة الديمقراطية، وقد جاء هذا التصريح في خضم الأحداث التي تنطلق بداياتها من ميدان التحرير حيث يتظاهر الآلاف التي تكاد أن تصل إلي الملايين اذا أدخلنا في حساباتنا المحافظات في جنوبالوادي وشماله! نستمع إلي أراء بعضها واضح وبعضها خافت وفي كلتا الحالتين ليس هناك ما يضير حركة المجتمع، فهناك من يهتف للتغيير الشامل بدءا من المحليات وحتي رأسي النظام، وهناك من يري التمهل وقبول ما هو معروض والانتظار حتي سبتمبر القادم وأن ما تحقق حتي الآن من نتائج كادت أن تفوق ما ماكنا نتمناه وأن علينا أن نغلب التريث علي الاندفاع طالما أن الطريق أصبح مفتوحا وأن الجميع قد أصبح علي يقين أن العجلة لن تعود إلي الوراء. عندما نعود إلي الوراء ونتأمل ما كان يجري لخمس عقود من الزمان بدءا من ثورة يوليو 25 وحتي ثورة يناير 1102 قد نكتشف أن هناك الكثير من الأمور الطيبة والانجازات الكبيرة لكن كانت الديمقراطية هي نقطة الضعف التي لم ينجح أي من حكامنا منذ سقوط الملكية وحتي تاريخه أن يفتح ابوابها أمام الشعب ليمارس حقوقه السياسية ويشارك في الحكم من خلال برلمان منتخب دون تزييف أو تزوير ومن خلال اعلام حر مستنير غير تابع للنظام السياسي! لقد وضعت ثورة يوليو بذور الحكم الشمولي التي اثبتت علي مر الخمسين عاما وجني الشعب ثمارها ولم يحاول أحد من الحكام أن يضع بذورا جديدة وانما أرتضوا أن يحكموا بما هو موجود فكانت ثورة يناير 1102 محصلة طبيعية كان من الممكن للحاكم أن يتجنبها لو كان قد احترم شعبه ووقف علي امكاناته وقرأ تاريخه لكن كانت هناك فجوة هائلة وتقارير مزيفة وإبتعاد عن حركة ونبض الشارع فكان الحكم في واد والشعب في واد آخر يفصل بينهما صحاري وانهار فكانت العاصمة مزارا ليس إلا! أخشي، وهناك بدون شك مشاركة من آخرين، أن نتوه في زحام لانعرف مكنوناته وأبعاده فكلما مضي الزمن دون أن نصل إلي طريق محددة معالمه ومعروف خطواتنا عليه كلما تضاعفت المخاوف ومن هذا المنطلق قد نضع المسئولية علي من في يدهم الكلمة العليا وهم كبار المسئولين الذين نشاهد وجوههم علي الشاشات يتحدثون، فالشباب الذين يعسكرون في الميدان رافعين اللافتات ومرددين الهتافات ينتظرون أن تأتي الكلمة من النظام وهي كلمة ربما تقتضي شيء من التنازلات والتضيحات لكن في نفس الوقت فإن سلامه الوطن تتطلب منهم أن يلتقوا مع النظام عند نقطة قد لانعرف موقعا وماهيتها لكن لابد منها وقد يحدث هذا الالتقاء بعد الانتهاء من كتابة هذا المقال وإرساله إلي المطبعة للنشر فكل الخيارات مطروحة وكلها قابلة للتنفيذ لكن يبقي التوقيت المناسب ولانريد أن ندخل في عالم التخمين! لقد كشفت الأحداث المتلاحقة الكثير من الخبايا ولايزال في الجعبة ما هو اكثر مفاجأة وألما وهذا هو ما نتوقعه من كل النظم الشمولية التي تبطن اكثر مما تكشف ما سبب مواقف محرجة وقاسية لعدد من الكتاب ورؤساء تحرير الصحف الذين وجدوا أنفسهم بين عالمين مختلفين، عالم كانوا يدافعون عنه ويتبنون توجهاته وعالم جديد جعلهم يضطرون إلي الدخول إليه وإن كان ذلك من خلال خطوات مهتزة فهم لم يتأكدوا بعد ماذا سوف تسفر عنه الايام القادمة! القلم لايزال بين اصابعي والافكار لاتزال متعثرة ومتلعثمة فكلما زادت أعداد المتواجدين في الميدان وكلما كانت تصريحات المسئولين قصيرة ومقتضبة وفيها الكثير من الدبلوماسية كلما توقفت الافكار في انتظار شيء ما يجعلها تنساب علي الورق وتأخذ طريقها إلي المطبعة! مرن علينا سنوات طويلة نسينا فيها موقع مصر من العالم وكانت تصرفاتنا وسلوكنا محل انتقاد منا ومن غيرنا ورأينا من كان في قاع العالم يتقدم علنيا ويسبقنا، وبقينا نشكو انفسنا لانفسنا ونندب حظنا وتمادي الحكام في غيهم وإزداد الفقر وازداد الغني، الفقر كان للاغلبية أما الغني فهو بطبعه محدود إعتقدت أن أحدا غيرهم لايحق له الاستمتاع بخير مصر فالارض لهم والبحر لهم والسياسة لهم والقانون يستطيعون تطويعه حسبما يريدون ووفقا لمصالحهم فكانت ثورة الخامس والعشرين من يناير لتؤسس مجتمعا جديدا شعاره العدل والمساواة والحرية! لقد شاركنا جميعا في كل المساويء والمأسي التي عاني منها المجتمع خلال العقود الماضية ولايستطيع أحد أن يعفي نفسه من هذه المسئولية حتي جاءت ثورة يناير لتعدل المسار وتعيد إلي مصر رونقها بين شعوب العالم التي تراجعت عن نظرتها للمصريين فرأينا شاشات العالم باكمله تخصص ساعات طويلة لتنقل أحداث مصر مباشرة وهكذا اكتشف المصريون كم هي عزيزة مصر علي العالم باكمله فهل ننتهز هذه الفرصة التي اتيحت لنا للقفز منها إلي عالم التقدم والرقي! نحن أصبحنا في حاجة إلي مشروع قومي ينقلنا إلي دنيا جديدة ونمسك بتلابيب ثورة يناير ولاتضيع الروح الجديدة فنستغلها أفضل استغلال فقد ضاعت منا فرصة انتصار اكتوبر ولم نفعل ما كان الوطن ينتظره منا وها هي الفرصة تعود إلينا علي ميدان من ذهب، فلنهب لنضع مصر جديدة تأخذ مكانها بين دول العالم المتقدمة. ملحوظة: تنحي الرئيس مبارك عن منصبه يوم الجمعة الموافق 11 فبراير وكنت قد ارسلت المقال الي ادارة التحرير يوم الخميس 01 فبراير وكما ذكرت في المقدمة أنه كان هناك صعوبة في ملاحقة الاحداث ومع ذلك قد يوافقي القراء الاعزاء أن المقال لايزال صالحا للنشر وحفظ الله مصر من المنافقين والذين يأكلون علي كل مائدة!