لعلها من المرات القليلة التي يتم فيها منع رواد بيت الله الحرام من الدخول.. لكن في بعض الأحيان تكون للضرورة أحكام.. والضرورة هذه المرة.. ان جاء يوم الجمعة.. مع آخر أيام التشريق.. والحجاج حريصون علي أن يؤدوا الصلاة حول الكعبة.. في نفس الوقت الذي لا يريدون فيه أن يكونوا من المتعجلين..! *** منذ الصباح.. والحجاج يتدفقون علي البيت الحرام.. منهم من لم يكونوا قد أدوا طواف الإفاضة بعد.. ومنهم من جاء موعدهم ليعودوا إلي الديار.. فيطوفوا طواف الوداع..! داخل صحن المسجد الحرام.. التف حولي عديد من الحجاج المصريين.. الذين سرعان ما انضم إليهم آخرون من ليبيا. وتونس. والمغرب. والسودان.. وقد اختلفوا فيما بينهم.. حيث تري فئة ان طواف الوداع واجب وفرض.. بينما تري فئة ثانية انه سنة.. والسنة يجوز تركها.. *** أعترف بأنهم قد أوقعوني في حيرة.. فاقترحت عليهم الاتصال بمفتي جمهورية مصر العربية الذي لديه القول الفصل. وبالفعل.. جاءني صوت الدكتور علي جمعة.. وكأنه ينبعث من داخل الحرم.. فالرجل شديد الإيمان بربه ورسوله عارف فقيه.. اشتهر بأنه الداعي الأصيل لتعاليم الإسلام السمحة..! بادرت أسأل د. علي جمعة: * فضيلة المفتي.. ماذا تري بالنسبة لطواف الوداع..؟! أجاب بثقته المعهودة بنفسه: وبعلمه: * إذا كان الفقهاء قد اختلفوا بشأنه.. فتلك حقيقية واقعة.. لكن أنا شخصيا أري انه سنة.. ثم أضيف إلي ذلك.. بأنه في ظل هذا الازدحام الهائل الذي يشهده المسجد الحرام.. وحتي ييسر المسلم لغيره الذي لابد وأن يطوف طواف الافاضة.. فليس ثمة حاجة "للوداع".. بل أن تركه في مثل تلك الظروف يدخل في دائرة الثواب!! *** المهم.. جاء موعد خطبة الجمعة.. ووقف إمام المسجد الحرام يتحدث لما يقرب من ثلاثة ملايين حاج مستعرضا ما أدوه من نسك.. وفي النهاية قال: والآن.. جاء دور طواف الوداع..! *** علي الجانب المقابل.. فقد قال الإمام ضمن ما قال: * لعل من أهم ما يحلم به المفكرون والمثقفون في العالم العربي والاسلامي.. أن تتحقق الوحدة بين الشعوب.. لأنها إذا ما تحققت فسوف تتغير أوضاعهم إلي الأفضل.. وسيعودون إلي أمجادهم القديمة.. التي لم يبددها سوي التمزق. والفرقة. والصراع. والتناحر..! *** بصراحة.. لقد أيقنت في أعماقي بأن خطيب المسجد الحرام يوجه حديثه لي.. فأنا ولا شك واحد من هؤلاء الذين خصهم.. الأمر الذي يؤكد ان للعقول قدرها.. ولأصحابها دور محدد من أجل أن تسترد الأمة.. كيانها. وسمعتها. وكرامتها..!! لقد تساءل الإمام ونحن جميعا معه: * لماذا أصابنا ما أصابنا..؟؟ * لماذا تفوق علينا الآخرون.. بعد أن كنا نحن الذين نتقدم الصفوف. * لماذا جاب غيرنا الافاق.. بينما نحن في أماكننا ساكنون جامدون..؟؟ الإجابة طرحها بنفسه وأوجزها في شيء مهم. وأساسي.. ألا وهو اصرار البعض علي أن ينصبوا أنفسهم أوصياء علي غيرهم.. وأن يفتروا علي الاسلام.. بما ليس فيه.. وأن يزيدوا علي ما أنزله الله سبحانه وتعالي من مباديء. وقيم. ومعان. وثوابت موحيا بها إلي رسوله الكريم.. ثم.. أن يتلاعبوا في سنته بانكارها تارة.. أو العدوان عليها بالباطل. والبهتان تارة أخري..! *** .. و.. ولم يغفل خطيب المسجد الحرام مسئولية الحكام في تحقيق الوحدة الاسلامية الشاملة داعيا إياهم.. لبذل أقصي ما يملكون من جهد. وعمل. وتضحيات. وأموال من أجل الوصول إليها..!! *** بكل المقاييس إنه كلام جيد.. لكن.. المهم.. أن تتحول الكلمات إلي واقع.. والدعوة إلي حقيقة.. والوسيلة إلي غاية.. فكم ترددت علي مسامعنا عبارات. ونداءات. وصيحات مماثلة دون أن نري حتي الآن.. بصيصا ولو من ضوء قليل..! *** في النهاية تبقي كلمة: لقد أخذ الاخوة السعوديون.. يؤدون صلاة الاستسقاء قبل حلول عيد الأضحي بفترة طويلة دون أن ينزل "الغيث".. ثم شاءت إرادة الله سبحانه وتعالي أن تهطل الأمطار خلال اليومين الأول والثاني من أيام التشريق.. إلي حد ان الجميع خشوا من أن تؤثر علي الحجيج أثناء وجودهم في مناطق المشاعر. لكن. لقد شاءت عزته. وجلاله أن يكتب السلامة للجميع.. فقد مر الموسم بلا أمراض وبائية أو غير وبائية.. ودون حوادث موجعة.. أو دامية. لك الحمد والشكر يا الله. E-mail:[email protected]