عندما نحتفل بذكري ميلاد أو وفاة أم كلثوم فإن ذلك ليس لأن إحدي المناسبتين قد حل موعده فنستعد له ونحييه في يومين أوثلاث أو حتي أسبوع ثم لانلبس أن ننصرف إلي غيره من الأحداث دون جديد. ولكن احتفالنا بأم كلثوم يكون في الحقيقة احتفالا بالفن الراقي والذوق الرفيع ولهذا يظل الاحتفاء بهذه العبقرية طوال أيام السنة. بل إن احتفالنا بأي فنان آخر. مولدا أو وفاة . وتحديدا في عالم الطرب لابد أن يواكبه ذكر لرمز الطرب كوكب الشرق لأنها ربة الغناء التي توفرت لها كل ملكات الإبداع. ولايختلف اثنان علي أن أم كلثوم لامثيل لها في حلاوة الصوت وقوته وتفرده. يعشقها الجميع. فلم نسمع أن هناك اختلافا حدث حول ذلك رغم مرور كل تلك السنوات علي مولدها أو رحيلها. وفي الحفلات التي تذاع بقنوات ماسبيرو أوالقنوات الفضائية التي احتكرت بعض حفلاتها للأسف. نجد العجب في حالة وقوفها علي المسرح إنها تبدو وكأنها في محراب للعبادة شامخة ساجدة للخالق الذي من عليها بنعمة الصوت الجميل. وعليها أن تشكره أنه بسط لها هذا الرزق. ولهذا نراها عندما تبدأ الغناء. فكأنما تقدم أجمل مالديها. خيرا علي من يستمع إليها. وشكرا علي هذه النعمة. إنها لاتغني كلمات مكتوبة لها لأنها حفظتها. ولكنها هامت مع معانيها فصارت من دم ولحم اختلط بها فنجدها تتمايل مع النغمة واللحن المصاحب لها. مع حركة معبرة من يدها وكامل جسدها وتضيف من عندياتها بتلوين في طبقة صوتها بين رقة وبكاء ومرح وابتسامة وأنين وبكاء وهمس وندم وعتاب وللعهد الجميل بما فيه من حاسد وعزول والغيرة علي محيا الحبيب من نسمة الجنوب. إننا في حفلات أم كلثوم نري الحضور في مسرح الحفل خشوعا بالزي الرسمي جلوسا كلهم آذان صاغية واعية. إنهم امام من تمتعهم وتحتفي بهم. وأعدت لهم أفضل ماقرأت وجلبت لهم أفضل من يلحن. إنها تقدم لهم خلاصة كفاحها في البحث والتنقيب عن الأفضل تعلن لهم أنها ليست أسيرة للسنباطي أو زكريا أحمد أو أبوالعلا محمد أو محمود الشريف أو القصبجي أو موسيقار الأجيال عبد الوهاب الذي غنت له بعد تدخل شخصي من القائد ولم تخجل من الغناء لبليغ او الموجي أو سيد مكاوي أو الطويل ومع كل هؤلاء كنا نلحظ حالة الانسجام مع فرقتها الموسيقية يعزفون وهي تدندن معهم الألحان مرات ومرات. إنها أم الفن التي ترعي كل أبناء وأحفاد الفن. ولم يكن أحدهم يحلم بأن تغني له فعلت ذلك أيضا مع عشاق الكلمة فلم تكتف بذلك الولهان بها رامي ولكنها تقلبت بين دروب عشاق آخرين للكلمة مثل شوقي وناجي وحافظ وبيرم والشناوي وشفيق كامل وعبدالوهاب محمد ومرسي جميل بل إنها نقبت عنها بين دروب عشاق آخرين لها في الوطن العربي والعالمي. لقد وهبت أم كلثوم نفسها للغناء لنفسها ولعشاقها ولوطنها. غنت بالفصحي والعامية كلمات ترددها وتقلدها كل الأعمار في كل الأزمان معتمدة علي تذوقها وموهبتها ونشأتها بين أحضان كتاب الله. تتلوه خشوعا وعندما عاش الوطن محنة النكسة كانت في صدارة المتبرعين بصوتها في حفلات خاصة ومكثفة من أجله تجلب له المال لتدعم إعادة التسليح والذي سمي وقتها بالمجهود الحربي. بل إنها عاشت حلاوة وطعم ثورة يوليو عام 52 وهي الفلاحة التي تعرف قيمة مبادئها مثل غالبية جموع المصريين الذين كانوا أجراء عند القلة من الباشوات. ولهذا كان حبها مثل كل المصريين طاغيا للثورة وزعيمها جمال عبد الناصر فغنت له ياجمال ياحبيب الملايين. لقد غنت للقائد فأحس الناس بصدقها وأحبوها لأنها أحبت القائد الذي يحبونه. إن أم كلثوم في وجدان كل منا لأنها غنت قصيدة حبه ومعاناته وأطلاله وسعادتها تلك هي كوكب الشرق التي نحتفي بميلادها ورحيلها طوال العام لقد أتاح لي القدر أن أخلد في محرابها عاشقا وأذكر أنني مثل ملايين غيري كنا نعيش قصة مولد إحدي أغنياتها الجديدة نقرأ كلماتها في الصحف وربما سعينا لحفظها وكنا نستعد استعدادا خاصا لليلة أم كلثوم وكانت الإذاعة هي مصدرنا الوحيد نستقبل من خلالها الجنين الجديد بحفاوة وكأنها القطفة الأولي لثمرة من فاكهة الجنة يمهد له صوت إذاعي مثل العملاق جلال معوض وهكذا نهذب أسماعنا وأذواقنا ونغتسل من همومنا وكانت قيثارة السماء هي المطر الذي نسقي به الزرع والزيتون وحقول القمح والذرة والأرز وننام قريري العيون في حياة أقل من البسيطة ملأتها كوكب الشرق متعة وزادا خالدا نعمر به الأرض ونملأ به الكون حبا وحنانا. رحم الله ثومه.