أعجبتني جملة قالها داهية السياسة الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر 92 سنة الآن في وصفه للرئيس الأمريكي دونالد ترامب. حين سئل. في حوار مع صحيفة "الفينا نشيال تايمز"الشهر الماضي عن رأيه فيه. قال إن ترامب من نوع القادة الذين يظهرون علي الساحة العالمية بين فترة وأخري ليكونوا إيذاناً بانتهاء حقبة عالمية. وبداية حقبة أخري. دون أن يدركوا هم أنفسهم أنهم كذلك. لكن.. ما هي الحقبة العالمية التي توشك أن تضع أوزارها إيذانا بالرحيل. وما هي الحقبة الاخري القادمة..سؤال للأسف لم توجهه الصحيفة لكيسنجر. ولم يتطوع كيسنجر باثارته أو يحاول الإشارة إليه. الظاهر من سياسات ومواقف الرئيس ترامب علي مدي ما يقرب من العامين حتي الآن. أنه جاء ليغير قواعد اللعبة السياسية والاقتصادية والتجارية علي المستوي العالمي. في علاقات الولاياتالمتحدة بكل الأطراف الدولية.. حلفاء. وأصدقاء. وأعداء. وإعادة التفاوض من جديد علي كل ما يتصل بذلك. للحصول علي أكبر قدر من المكاسب لبلاده. تحت شعاره المفضل: أمريكا أولا. من هنا تصادم ترامب مع الجميع. ابتداء من الجيران شمالا وجنوبا: كنداوالمكسيك. شريكتي أمريكا في اتفاقية النافتا إلي الحلفاء شرقا في الاتحاد الأوروبي. وغربا مع اليابان. الشريك الرئيسي في اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا عبر الباسفيك. لكن. هناك دولا بعينها رخصها ترامب ومازال بضغوط أكبر. وأشهر في وجهها سلاح العقوبات. وبكل أنواعها أحيانا: اقتصادية وسياسية وعسكرية. وهذه الدول تنحصر في: كوريا الشماليةإيرانروسياالصينتركيا. وأقول "رخصها"ترامب ومازال يضغط أكبر لأن ترامب توصل لتسوية مثلا مع المكسيك. واليابان وفي طريقة لتسوية مشكلته مع كندا.. أما مشكلته مع الاتحاد الأوروبي فتكاد تنحصر علي المستوي المباشر. في سعيه للحصول من أعضاء حلف الأطلنطي علي معدل إنفاق عسكري أكبر علي الحلف لتخفيف العبء عن أمريكا.. بينما مشكلته غير المباشرة مع دول الاتحاد الأوروبي. فتتعلق بروابطها الاقتصادية والتجارية مع إيران. ومصالحها مع روسياوالصين. ما هو القاسم المشترك بين هذه الدول الخمس تحديدا. والذي يجعل ترامب يضاعف الضغوط عليها؟! في تقديري الشخصي أن روسيا بوتين. هي هذا القاسم. بوتين مند وصوله إلي قيادة روسيا لا يخفي نقمته. علنا علي تفكك الاتحاد السوفيتي السابق ومعسكره ليس من وجهة نظر إيديولوجية كتكتل شيوعي. ولكن من وجهة نظر جيوبولوتيكية كحزام أمن قومي. ويعتبر ما حدث وفقا لتوصيفه "كارثة قومية". بوتين انطلاقا من هذا الموقف يسعي لإعداد روسيا من جديد لكي تكون قادرة علي منافسة الولاياتالمتحدة علي قيادة العالم في نظام دولي جديد متعدد الأطراف. يكسر الاحتكار الأمريكي للقيادة العالمية. بوتين. يدرك جيدا أن روسيا لا تستطيع بمفردها تحقيق ذلك. في مواجهة الولاياتالمتحدة المسلحة عسكريا بحلف الاطلنطي الذي أصبح الحلف العسكري الوحيد علي الساحة الدولية واقتصاديا بهيمنتها علي مؤسسات التمويل الدولية: البنك وصندوق النقد الدوليين. باعتبارها المساهم الأكبر فيهما. لابد إذن من حلفاء وشركاء.. ولابد من مناطق نفوذ روسية جديدة في قارات وأقاليم العالم..روسيا لا تنقصها القوة العسكرية.. لكنها تحتاج إلي القوة الاقتصادية اكثر. الصين..إيران.. كوريا الشمالية. هم حلفاء روسيا الحاليون.. تركيا شريك تسعي روسيا جاهدة لتحويلها إلي حليف وانتزاعها من حلف الاطلنطي. مستغلة طموح أردوغان. وتراجع حلمه بالانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي. ورغبته في معاقبة الأوروبيين والرد علي العقوبات الأمريكية ضد بلاده. لاحظ أن روسيا تغفر لأردوغان أي خطأ يرتكبه في حقها مهما كان.. غفرت له اسقاط طائرتها الحربية داخل الاراضي السورية. وغفرت له اغتيال سفيرها في أنقرة.. وهذا كله ليس مجانا. كما أن التحالف الروسي الإيراني التركي في سوريا ليس مجرد اتفاق عابر يتعلق بأزمة دولية..بل نواة لتأسيس وتعزيز نفوذ ووجود وتنمية مصالح قد تمتد لعقود. وربما كانت اتفاقيات الغاز الروسية التركية. وسعي تركيا عضو حلف الأطلنطي للحصول علي منظومة الصواريخ الروسية الشهيرة. علي غرار ما سعت إليه إيران أيضا. من أهم أسباب فرض العقوبات الأمريكية علي تركيا. لاحظ أيضا أن أكثر ما أزعج ترامب من أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا. هو تقاربها مع روسيا. وكعادته لم يخف ترامب هذا الانزعاج وعبر عنه بشكل فج ومستفز لدي حضوره قمة حلف الأطلنطي في أوروبا حين اتهم ألمانيا ميركل بأن قرارها السياسي يصدر من موسكو. وهوما ردت عليه ميركل بقوة. بأن ألمانيا دولة ذات سيادة وقراراتها تنبع منها ومن مصالحها. هل جاء ترامب ليوقف الطموح الروسي. ويضرب تحالفا محتملا من شأنه إذا اكتمل واتخذ اطارا قانونيا في شكل معاهدة دولية متعددة الأطراف أن يعيد روسيا مرة أخري إلي صدارة قيادة النظام الدولي؟! لو كانت الإجابة ب "نعم" لاستدعي ذلك سؤالا آخر: إذن.. كيف ساعد بوتين ترامب علي الفوز في الانتخابات الرئاسية فيما عُرف ويُعرف حتي الآن بالتدخل الروسي لصالح ترامب في هذه الانتخابات من خلال الاختراق الإلكتروني لحسابات منافسته هيلاري وحزبها الديمقراطي. الأمر يبدو معقدا للغاية وتبدو ترجمته العملية علي الأرض في أنه كلما تقدمت قضية التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية خطوة نحو التوصل إلي الحقيقة ازداد ترامب شططا في إظهار القوة في التعامل مع روسيا كوسيلة لنفي هذه التهمة عنه. وليثبت أنه أكثر رئيس للولايات المتحدة تشددا في معاملة روسيا بعد أن كان في حملته الانتخابية وخلال أيامه الأولي في البيت الأبيض. هو الرئيس الأمريكي الأكثر توددا لروسيا واعجابا بزعيمها بوتين. ترامب يتعامل مع روسيا الآن تحت عقدة الاتهام بأنها الذي جاءت به إلي البيت الأبيض. وليس نطلاقا من مشاعره الحقيقية تجاهها.. وبوتين فيما يبدو لديه أوراق لم يظهرها بعد حول علاقات قديمة لترامب بروسيا يمكن إن كشف عنها أن تكبح جماح ترامب تجاه بلاده. أو ربما تطيح به لكنه لايفعل. لأنه يري أن ترامب يقدم له حتي الآن أفضل خدمة. وهي أنه يدفع كل من يفرض عليهم عقوباته إلي التقارب مع روسيا وتقاسم الاحساس برفض الهيمنة الأمريكية. وسياسة العصا الترامبية. وهو المطلوب في الفترة الراهنة. ولذلك سيبقي ترامب في البيت الأبيض حتي اشعار آخر.