تعد عمالة الأطفال مشكلة كبيرة تؤثر علي ثقافة وتربية تلك الفئة فضلاً عن الأعباء الثقيلة والتي تقع علي الطفل وتهدد سلامته وصحته وتأثيرها علي حالته النفسية نظراً لأعباء العمل في سن مبكرة وعدم التمتع بحياتهم الطبيعية في فترة الطفولة ويلجأ أصحاب العمل بالورش الفنية "الحدادة والخراطة والميكانيكا ومحلات الحلاقة" للاستعانة بالأطفال الذكور.. أما الإناث فيكون بالعمل في الحقول خاصة في مواسم الجني والحصاد ويتم نقل الصغيرات إلي المزارع نقلاً جماعياً بسيارات نصف نقل مكشوفة ويبدأ يومهن بالعمل منذ الفجر بالمزارع بالمناطق الصحراوية مما يعرضهن للأمراض الصدرية.. وكذلك في بيع البضائع بالشوارع مثل المناديل والأدوات المختلفة وتتم استغلال الأطفال بالعمل نظراً لصغر أعمارهم وعدم قدرتهم علي الدفاع عن حقوقهم وأيضاً فهم عمالة رخيصة بأجور متدنية وبديلة عن عمل الكبار ويدفع الصغير الثمن حيث يمنعه العمل عن التعليم. "الجمهورية" رصدت ظاهرة عمالة الأطفال داخل منطقة بولاق أبوالعلا والسبتية ووكالة البلح وشارع شنن وسوق العصر.. ومع بداية الجولة وجدنا الورش تمتلئ بالصغار في أعمال شاقة وخطيرة تهدد حياتهم. وفي إحدي الورش طفل لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره يجلس علي باب الورشة بملابسه الممزقة "والملطخة" بالشحم والزيت يأخذ قسطاً من الراحة بعد أن شعر بالتعب نتيجة الأعباء والأحمال الثقيلة التي يعمل بها من الصباح الباكر وحتي المساء وحينما اقتربنا منه للحديث معه رفض لخوفه الشديد من "الأسطي" حتي لا يتعرض للضرب والمهانة. وعلي بعد خطوات قليلة كانت مجموعة من الأطفال ينقلون المواسير من سيارة نصف نقل إلي الورش بطريقة صعبة وسيئة لا تناسب أعمارهم حيث يقف واحد فوق السيارة يقوم بحمل المواسير وإعطائها إلي زميل له يقف علي الرصيف والذي يسلمها إلي الآخر لإدخالها إلي المخزن مما يرهق أجسادهم الضعيفة والنحيلة ومع كل هذه الأعمال الشاقة تكون الأجور متدنية لا تتلاءم مع المجهود الذي يبذلونه لإنجاز العمل للحصول علي الأجرة كاملة "اليومية" أو "الاسبوعية" دون خصم فهم في أشد الاحتياج للجنيهات القليلة لمساعدة ذويهم في تلبية الاحتياجات الضرورية للأسرة.. وجاءت المفاجأة الكبري بعمالة الصغار والذين لم تتجاوز أعمارهم سبع سنوات حيث خرج طفل صغير يرتدي "الترينج" وعليه شحم وزيت ووجهه يظهر عليه علامات الحزن والأسي لما تعرض له من حرمان لطفولته وعمله بأشغال شاقة لا يتحملها جسده النحيل وكان يقف بإحدي ورش اللحام والخراطة يحمل "الصاج" لمساعدة الأسطي في صمت دون أن يبكي من الألم. ولن ينته المشهد عند هذا الوضع المآساوي ولكن وجدنا طفلاً آخر يركب "عربة كارو" في انتظار تحميلها من المخازن ونقلها إلي مكان آخر وفي صورة طبيعية. وأثناء الجولة تحدثت مع صاحب إحدي الورش والذي رفض ذكر اسمه ونفي أنه يستعين بعمالة الأطفال وأن الصغار المتواجدين بداخل الورشة أبناء صاحب العقار وبعد فشلهم في التعليم قرر الأب تعليمهم "صنعة" وقام بإحضارهم إلي الورشة ونحن نتحدث معه وجدنا الأطفال يقومون بأعمال ثقيلة وينظرون إلينا بعيون يملؤها الحزن والخوف من التحدث إلينا خوفاً من "الأسطي" والطرد من العمل. وتوجهنا إلي ورشة أخري وعلي بابها كان يجلس صاحبها مع مجموعة من جيرانه أصحاب الورش المجاورة وقال نفس الكلام عن الاستعانة بعمالة الأطفال حيث جاء رده أنه يستعين بهم في فترة الإجازة المدرسية بالصيف فقط ولكن مع بداية العام الدراسي ينقطعون عن العمل مبرراً عملهم بتوفير وادخار المصروفات الدراسية وأكد أن هناك بالفعل ورشاً تقوم بعمالة الصغار. وفي شارع رمسيس وجدت طفلاً "يجر" عربة نقل بضائع ويسير بها في الشارع وتحدث معي ببراءة الأطفال فهو يبلغ من العمر تسع سنوات وكان يلتقط أنفاسه بصعوبة وقال أحمد سيد: أقيم مع أسرتي المكونة من الأب والأم وأشقائي الخمسة بمنزل صغير بأحد الأحياء الشعبية ووالدي يعمل باليومية ويكتسب قوت يومه بالكاد وأنا ترتيبي الثالث بين أخوتي وأعمل بإحدي الورش حتي أستطيع الإنفاق علي نفسي ومساعدة أسرتي وأشقائي الصغار وكنت أتمني أن أتعلم وأحصل علي شهادة ووظيفة. وفي شبرا الخيمة وبداخل إحدي محلات الكاوتش تحدث معنا "كريم.ع" والذي ذكر اسمه بصعوبة وقال: منذ عامين وأنا أعمل بالمحل بعد تكرار رسوبي في الشهادة الابتدائية وإصابتي بالإحباط لعدم استطاعتي تكملة التعليم وقرر والدي إلحاقي بسوق العمل حتي لا أصاحب "شلة" منحرفة تقودني إلي طريق الضياع وتعليم "الصنعة" أفضل في الصغر لاكتساب الخبرة وحينما أصبح شاباً سوف يكون لي محل باسمي ولكن لن أرضي بأن يترك أشقائي التعليم وسأعملا ليلاً ونهاراً لمساعدتهم حتي لا يكون مصيرهم مثلي. أما في المنوفية يكون عمل الإناث بالحقول والمزارع بالمناطق الجبلية وتروي "صباح.م" معاناتها مع العمل كل بنات القرية يعملن في نفس المجال ونقوم في الفجر للتجمع أمام السيارة نصف النقل المكشوفة لتذهب بنا إلي مكان العمل بمسافات طويلة ونعمل طوال اليوم في جمع البطاطس والعنب وجمع القطن والقمح وباقي المحاصيل الزراعية لأكثر من 8 ساعات يومية وعودتنا مرة أخري إلي قريتنا لنقوم بعدها بالأعمال المنزلية فالفتاة الصغيرة تعمل "بروحين" بالحقل والمنزل دون كلل أو ملل فنحن منذ صغرنا تعودنا علي ذلك وبالأجرة التي نتحصل عليها ندخل بها في "جمعيات" حتي يتسني للبنات الزواج وشراء المستلزمات المنزلية وتخفيف العبء علي الأسرة. تشير د. مها خالد أستاذ سلوكيات الأطفال بجامعة عين شمس إلي أن للمشاكل الاجتماعية والنفسية تأثيرا سلبيا ومباشرا علي التواصل الاجتماعي بين الطفل والمجتمع خاصة حينما يتم الدفع به لسوق العمل بالورش والمحلات في سن صغيرا وتعرضه للعنف الجسدي والمعنوي إلي جانب حرمانه من أهم حقوقه وهو التعليم مما يصيبه بأمراض نفسية اضطرابات سيكوباتية ويصبح شخصية مضادة للمجتمع ويتولد بداخله الحقد والكراهية وشعورهم بالحرمان وتشوه الحالة البدنية فضلاً عن عدم قدرته علي العطاء والإنتاج حيث تربي منذ صغره بأن يكون "صبي" للأسطي والذي يخاف من عقابه المصاحب دائماً للضرب. يوضح د. جمال فرويز استشاري الطب النفسي بالأكاديمية الطبية أن عمالة الأطفال تعرضهم لاضطرابات شخصية عنيفة وذلك لحرمانهم من حياة الطفولة البريئة وشعوره بالحقد ضد الآخرين وقد يحدث أن يعيش هذه المرحلة مرة أخري في سن متأخرة وهو ما يسمي بالمراهقة المتأخرة والتي تؤدي إلي اضطرابات سلوكية خاصة بعد أن يتعلم "الصنعة" ويصبح "أسطي" ويتزوج وينجب الأبناء فهناك أساليب للمعاملة يتبعها مع أولاده إما أن يغدق عليهم بالأموال كعملية تعويضية عن الحرمان الذي عاني منه وهو صغير أو البخل الشديد والإمساك علي أولاده بالمصروفات أو إصابته بأمراض أخري مثل إيجاد متعة في تعذيب الآخرين مثلما كان يحدث معه. ويري فيرويز أن هناك أسرة توجهت بولد صغير إلي العيادة النفسية لتوقيع الكشف الطبي عليه بعد أن ظهر عليه تغيير طارئ في معاملته مع الناس وبعد عدة جلسات نفسية معه تحدث الولد أنه يعمل في ورشة ملك لوالده ولكن لوجود خلافات بين الأب وأشخاص آخرين قاموا بالانتقام من الصغير باغتصابه أكثر من مرة مما أصابه بأمراض نفسية والطفل يخاف أن يبوح بالسر إلي الأهل خوفاً من تعرضه للضرب. ويقول د. فؤاد عبدالنبي الفقيه الدستوري إن المادتين "80 و81" من الدستور المصري وبالفقرة الرابعة تحذر من قيام الأطفال بأي أعمال مهنية ولكن في حالة مخالفة هذه المواد تعد جريمة دستورية.. فالأهالي يدفعون أولادهم للعمل في الورش وجمع القمامة نظراً لاحتياجهم الشديد للمال أو نتيجة للتفكك الأسري ومن هنا يبدأ الأطفال بالتشرد. ويوضح أن العقوبة المنصوص عليها بالقانون لا تتناسب مع الجريمة التي ترتكب ضد عمالة الأطفال حيث تكون 6 شهور أو سنة أو ثلاث سنوات يطالب المشرع القانوني والجنائي بتغليظ العقوبة. تضيف د. فادية أبوشهبة أستاذ القانون الجنائي بالمركز القومي للبحوث الجنائية والاجتماعية أنه يوجد استغلال للطفل للعمل بأماكن متعددة وما يصاحبها من اعتداءات عنيفة وممارسات وحشية ترتكب ضده مثل الإيذاء البدني وهتك العرض واستخدامه في توزيع وترويج المخدرات علي المدارس. مشيرة إلي أن حرمانه من التعليم والتحاقه بالعمل بالورش ليصبح "بلية" لسنوات طويلة وقيامه بأعمال شاقة تمثل خطر كبير علي حياته البدنية والنفسية إلي جانب نوع آخر من صور العنف الزواج المبكر ببيع البنات للعرب عن طريق سمسار وتندرج تلك الجريمة تحت مسمي "الاتجار بالبشر". وتعرب عن أسفها الشديد للغرامة التي يتم توقيعها علي صاحب العمل والذي يستغل الأطفال في العمالة فهي 50 جنيهاً أو 100 جنيه في حالة تحرير محضر ضده بعمالة الأطفال وأحياناً كثيرة يقوم بطرد الصغار ويرفض سداد الغرامة وبعد وقت قصير يبدأ في الاستعانة مرة ثانية بالصغار للعمل حيث يوجد آباء يدفعون أبناءهم للعمل لمساعدته في تربية أشقائهم فهم يعملون بالمثل الشعبي "العيال يربوا بعضهم".