التعَدُّديَّة بينَ النَّاس واختلافُهم طبيعة قرَّرها القُرآن الكَريم. ورتَّب عليها قَانُونَ العَلاقَة الدَّوليَّة في الإسلام. وهو "التَّعَارُف" الذي يَسْتَلزم بالضَّرورَة مبدأ الحوار مع من نتفق ومن نختلف معه. وهذا ما يَحتاجه عالَمُنا المُعاصِر -الآن- للخروج من أزماته الخانقة. ومن هنا كان من الصعب علي المسلم أن يتصوَّر صَبَّ النَّاس والأُمَم والشعوب في دين واحد أو ثقافة واحدة. لأن مشيئة الله قضت أن يخلق الناس مختلفين حتي في بصمات أصابعهم. يقول القرآن: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين". والمؤمن بالقرآن لا يرتاب في أنه ليس في إمكان قوَّة ولا حضارة أن تُبدِّل مَشِيئة الله في اختلاف النَّاس. وينظُر إلي النَّظَريَّات الَّتي تحلم بجمع الناس علي دين واحد أو ثقافة مركزية واحدة نظرته إلي أحلام اليقظة أو العبث الذي يُداعِب أحلام الطفولة. ويمكن هنا أن ألفت النظر إلي أمرين لا يمكن تفاديهما في أي تلاقي بين الشرق والغرب. وعلي أي مستوي جاد من مستويات هذا التلاقي: الأمر الأول: الآية القرآنية التي يرددها المسلمون - رجالاً ونساءً وأطفالاً - صباح مساء. بل كثير من المثقفين والمفكرين الغربيين يحفظون فحواها عن ظهر قلب من كثرة ما ترددت علي مسامعهم في محافل الحوار ومنتدياته. هذه الآية هي قوله تعالي: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَري وَأُنثَي وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمى خَبِيرى". والمسلمون جميعاً -لا يشذ منهم أحدى- يفهمون من الآية أن التعارف المنصوص عليه في الآية الكريمة هو الهدف أو الغاية الإلهية العليا التي خلق الله الناس من أجلها.. والتعارف يعني التعاون وتبادل المنافع. وليس الصراع ولا الإقصاء ولا التسلط. وإذا كان لقاء التعارف البشري هو القانون الإلهي للعلاقات الدولية بين الناس أفلا يعني هذا أنه أمر يمكن تحقيقه إذا ما خَلُصَت النَّوايا وصحَّتِ العزائم؟. وقد تعجبون أيضاً إذا علمتم أن شيوخ الأزهر في أربعينيات القرن الماضي سبقوا الجميع في التنبيه علي هذا الحل الذي لا حل غيره. حيث نادي الشيخ محمد مصطفي المراغي "ت: 1946م" شيخ الأزهر في ذلكم الوقت بالزمالة العالمية بين الأمم كافة لاحتواء صراعات الأمم والشعوب. وذلك في كلمته أمام مؤتمر عالمي للأديان الذي عقد بلندن سنة: 1936م. ثم جاء بعده - بعشر سنين - الشيخ محمد عرفة الذي كتب في مجلة الأزهر في عامها العاشر سنة: 1946م مقالاً نادي فيه بضرورة التعاون بين الإسلام والغرب. وقد دفعه لكتابة هذا النداء ما انتهت إليه الحرب العالمية الثانية آنذاك من اختراع القنبلة الذرية والأسلحة الفتاكة. وقد حذَّر من فناء العالم كله. إذا استعمل المحاربون هذه المخترعات. وانتهي إلي أنَّه لا مفر من التقريب بين الشعوب ومن إزالة أسباب الخلاف والبغضاء. ومن أن تصبح الأرض كلها مدينة واحدة. وأن يكون سكانها جميعاً كأهل مدينة واحدة. وقد عوَّل الشيخ كثيراً في دعوته لهذا التعاون العالمي علي وجوب أن يفهم الغرب الإسلام. وأن يفهم الإسلام مدنية الغرب. وأنهما إذا تفاهما زال ما بينهما من سوء ظن. وأمكن أن يعيشا معاً متعاونين. يؤدي كل منهما نصيبه من خدمة الإنسانية. ودعا علماء المسلمين إلي ضرورة أن يبينوا مدنية الغرب علي حقيقتها. ليحل التعارف محل التناكر. ويحل السلام محل الخصام. إن الدعوة إلي الله في دين الإسلام محددةى بأن تكون بطريق الحكمة والحوار الهادئ الذي لا يَجرَح الآخرَ ولا يسيءُ إليه أو إلي عقيدته. ويَبرأُ الإسلامُ في نشر عقيدته بقوَّة السلاح أو الإكراه أو الضغوطِ أيًّا كان نوعُها حتي لو كانت ضغوطاً في شكل إغراءي بالمال أو الجاه أو شراء القلوب والعقول» لأنَّه كما يقرِّر القرآن: "لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ" كما يقرِّر: "فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ" ودور نبيِّ الإسلام كما حدَّده له القرآنُ الكريم هو دور المبلِّغِ والموضِّحِ لطريق الله. وأنه لا يسيطرُ علي الناس. ولا يُكرِهُهم. وإنما يَدَعُهم لله بعد أنْ يُبيِّنَ لهم طريقَ الحقِّ وطَريق الضلالِ. قال تعالي: "إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ". "لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِري". "أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّي يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ". والنَّاس بالنسبة للمسلم إما أخى في الدين أو نظيرى في الإنسانية. وأنَّ المسلم فيما يقرِّر نبيُّ الإسلامِ هو "مَنْ سَلِم النَّاسُ مِن لسانه ويده". أي هو مَنْ يُسالِم النَّاس. ولا يُلحِقُ بهم أذًي لا بلسانه ولا بيده. ويحرِّمُ الإسلامُ إلحاقَ الأذي بأبناء الأديانِ السماويةِ بوجهي خاصيّ. لدرجةِ أنَّ المسلم الذي يؤذي أهل الكتاب يخاصمه نبي الإسلام يوم القيامة. كما يتبرأُ اللهُ ورسولُه منه في الدُّنيا والآخرة. إن الأزهر الشريف يبذل جهوداً دولية لترسيخ السلام والأمن حول العالم. ويحرص علي الانفتاح والحوار مع جميع المؤسسات الدينية العالمية. والتلاقي معها داخل مصر وخارجها. وسبق أن عقد قبل أشهر مؤتمر الأزهر العالمي للسلام بحضور عدد من القيادات الدينية من أنحاء العالم. حيث وجه المؤتمر رسالة مشتركة للعالمِ كُلِّه بأنَّ رموز وممثلي الأديانِ المجتمِعِين في رِحابِ الأزهرِ الشَّريفِ يُجمِعون علي الدَّعوةِ إلي السَّلام بينَ قادةِ الأديانِ وجميع المُجتَمَعاتِ الإنسانية. ويُؤكِّدونَ انطِلاقاً من الثِّقةِ المُتَبادَلةِ بينَهم. علي دعوةِ أتباعِ الأديانِ للاقتِداءِ بهم. والعمَلِ بهذه الدَّعوَةِ يَداً واحدةً من أجلِ نَبْذِ كُلِّ أسبابِ التَّعصُّبِ والكراهيةِ. وتَرسِيخِ ثَقافةِ المحبَّةِ والرحمةِ والسَّلام والحوار بين الناس.. أسال الله عز وجل أن يسهم هذا الجهد بشكل فاعل في العمل علي تحقيق السلام للبشرية جمعاء.