عندما تكون قضية فساد القمح أمام النيابة وتقرير لجنة تقصي الحقائق البرلمانية في مكتب النائب العام وجهاز الكسب غير المشروع حيث أدان التقرير وزير التموين السابق د.خالد حنفي سياسيا علي الأقل حتي الآن. كما كشف عن إهدار للمال العام والذي وصل إلي 560 مليون جنيه في 9 صوامع فقط من بين 135 صومعة وشونة خاصة و382 عامة مازالت تنادي أجهزة الرقابة لاكتشاف ما بها من فساد متوقع.. وإذا كان ثلاثة من أصحاب الصوامع المخالفة دفعوا 240 مليون جنيه للخروج من الحبس علي ذمة القضية و5 آخرون هربوا إلي الخارج وإذا كانت كل المصادر تؤكد ان الوزير أقيل ولم يقدم استقالته. بعد كل ذلك - وما خفي كان أعظم هل يعقل أن يتوجه مجلس الوزراء في اجتماعه الخميس الماضي بالشكر والتقدير للوزير.. "لما بذله من جهود خلال توليه المسئولية ولاسهاماته في إصلاح منظومة دعم الخبز وتطوير المجمعات الاستهلاكية.. كما أعرب المجلس عن تمنياته له بالتوفيق في حياته العملية"!! ما أكثر التساؤلات أمام هذه السابقة الخطيرة التي تحرق الدم وتغلق باب الأمل في هذه الحكومة.. كيف لم ينبه أحد رجال القانون في المجلس رئيس الوزراء أن مضمون وتوقيت هذا الشكر. يعد تدخلا في عمل السلطة القضائية وإصدار حكم مسبق له بالبراءة قبل أن تقول سلطات التحقيق كلمتها.. وهل هذا العرفان العجيب الذي كان ينقصه تحديد موعد حفل التكريم له علاقة بالسياسة أم أنها خرجت من أبواب المجلس ولم تعد ليكون غيابها عن حكومة التكنوقراط من أهم أسباب ما نعانيه من تخبط وأزمات..! أيضا.. ألا يعتبر ما حدث مخالفة صريحة لموقف الجهة التي أمرت بإقالة الوزير.. وكذلك ألا يعد ذلك تسفيها غير لائق لجهود اللجنة البرلمانية التي حاولت مخلصة كشف الفاسدين في هذه المنظومة المغلقة عليهم منذ سنوات ليربحوا المليارات دون أن يحاسبهم أحد. وهو ما يجب أن يساءل عليه د.حنفي خاصة فيما يتعلق بفضيحة خلط القمح المستورد بالمحلي العام الماضي وخسارة الدولة نحو 2 مليار جنيه والذي برر - في حواره معي منذ شهور وجود كمية اضافية مع الأرقام الرسمية للإنتاج المحلي بأنها ترجع إلي تسليم المزارعين ما كانوا يخزنونه في الماضي للاستهلاك الشخصي اعتمادا علي مخابز الحكومة بعد نجاح منظومة الخبز! وهذا النجاح الغامض الذي تشيد به الحكومة استنادا علي اختفاء طوابير الخبز المدعم لم يتم حسم الجدل حوله خاصة مع وجود تقارير رقابية عن زيادة الدعم وليس تخفيضه من خلال هذه المنظومة وبالتالي هل كان ثمن اختفاء الطوابير أعباء جديدة علي موازنة الدولة بجانب فساد منظومة كروت التموين الذكية لصالح لصوص المخابز وغيرها مما استدعي نقل إدارة هذه المنظومة إلي وزارة الإنتاج الحربي لسد الثغرات أمام مافيا الفساد؟! أيضا هل الحكومة التي تجيد الشكر أكثر من المحاسبة للمقصرين في تحمل مسئوليتهم وإدارة قوت الغلابة. هل هي راضية عن ارتفاع الأسعار الجنوني في كل السلع تقريبا والأزمات المستمرة والمتجددة في الأرز والسكر وغيرهما.. وبالتالي كيف يطاوعها ضميرها علي توجيه الشكر للوزير علي تطوير المجمعات الاستهلاكية رغم تقصيره في أن تكون ذراع الدولة لضبط الأسواق في ظل غياب أي تسعيرة جبرية أو هامش للربح أو قانون رادع لحماية المستهلك وذلك إذا كان الوزير قد أكمل ما بدأه في توفير اللحوم السودانية بسعر ثابت.. وذلك بالتعاقد المباشر مع المنتجين لكسر مافيا الوسطاء وإجبار التجار علي تخفيض أسعارهم ولكن هذا لم يحدث بشكل مؤثر وباستثناءات نادرة لا تدوم طويلا! وإذا كان يحسب لخالد حنفي تفعيل دور هيئة السلع التموينية في الاستيراد المباشر للقمح بدلا من المليارديرات السبعة فانه لم يستمع لنصيحة الخبراء بتطبيق ذلك في كل السلع التي يحتاجها المستهلك سواء من الخارج أو من المصانع المحلية أو المزارعين بالاتفاق مثلا مع الجمعيات الزراعية للتوريد المباشر للمنافذ الحكومية رحمة بالغلابة الذين يكتوون بجنون أسعار كل أنواع الخضر والفاكهة لأن هذه المنافذ تتعامل مع نفس تجار الجملة الذين يسيطرون علي كل الأسواق! الحكومة التي تشيد بتطوير المجمعات لم تقل لنا ما عدد المنافذ الجديدة والأخري التي قام الوزير بتطويرها مع التسليم بأهمية مشروع "جمعيتي" للشباب وذلك في مقابل اهتمامه المبالغ فيه بدعم السلاسل التجارية الخاصة.. والأهم من التطوير هو ما عدد السلع التي تمثل بالفعل فرصة لتخفيف معاناة المستهلك وانقاذه من جشع التجار وهل تخفيض هامش الربح بنصف أو جنيه مثلا في عدد قليل من السلع يمكن أن يحقق هذا الهدف لملايين الغلابة الذين يشترون السكر ب8 جنيهات نتيجة اختفائه من المجمعات ونجاح التجار في تعطيش السوق استغلالا لفشل وزارة التموين في تحديد الاحتياطي المطلوب بالمخازن لعدة شهور قادمة ولأن كل حكوماتنا الرشيدة الحالية والسابقة لم تفكر في ضرورة سد الفجوة بين التصنيع والاستهلاك والتي تقدر بنحو 800 ألف طن من خلال فتح مصانع جديدة عامة أو خاصة قبل أن تفاجئنا بورصة السكر العالمية بارتفاع أسعاره! وللأسف بدلا من تشجيع الفلاحين علي زراعة البنجر لإنتاج السكر الخام توقف - كما يقول النائب علاء عابد. مصنع السكر الذي يعتمد علي البنجر وأصبحنا نصدر البنجر إلي المغرب لتعيد تصديره لإسبانيا والذي تنتج منه الأعلاف التي تصدرها لمصر!! منذ أسابيع طالبت رئيس الوزراء باصطحاب وزيره الهمام - قبل استقالته في جولة للمقارنة بين أسعار المجمعات وأقرب سوبر ماركت ليختبر مدي صدق وواقعية تصريحات الوزير "المحفوظة" عن توفير السلع الأساسية بأسعار رخيصة ويتأكد من عدم وجود فارق يذكر في الأسعار مع اختفاء بعض السلع المدعمة نهائيا من المجمعات ومنها الأرز والذي حقق للتجار الموسم الماضي ملايين الأرباح الحرام بعد رفع سعره من 5 إلي 9 و10 جنيهات للكيلو بعد أن خدعوا الوزير وقاموا بتخزين الأرز وطرحه بشروطهم بعد تعطيش السوق. وعندما حاول الوزير إصلاح غلطته - التي لم يحاسبه عليها أحد ووافقت الحكومة علي تمويل شراء 2 مليون طن أرز شعير في الموسم الجديد. تلكأت الوزارة في تقديم الحصة النقدية لكل مديرية تموين لشراء الأرز من المزارعين مما تسبب في رضوخ بعضهم لشروط التجار وبيع المحصول لهم بسعر أقل مما عرضته الحكومة بهدف دعمهم وتشجيعهم علي توريده لها.. والنتيجة أن الوزارة يمكن ألا تستطيع جمع ال2 مليون طن ليكرر التجار مهزلة العام الماضي بالتخزين أو التهريب للخارج مع فرض أسعارهم علي السوق. وللأسف لم يهتم رئيس الوزراء بالتأكد من واقعية تصريحات وزيره السابق بل أسرف في تكرار ما كان يقوله د.حنفي عن "محفوظات" "توفير السلع بالمجمعات وحماية الغلابة".. ولكن الحق يقال. أضاف المهندس شريف إسماعيل جديدا في اجتماع الحكومة الخميس الماضي حين قال بكل ثقة: "لا تهاون مع المتلاعبين بالأسعار" مع ضرورة اتخاذ الإجراءات اللازمة لضبط الأسعار وتشديد الرقابة علي الأسواق. وإذا قلنا بأمارة إيه؟ يتهمك البعض بأنك لا تري إلا السلبيات.. ولكن المأساة أن الحكومة ليس في يدها أدوات لتحقيق نواياها الطيبة لأنه كيف تضبط - إذا أرادت - تاجرا جشعا والأسعار غير محددة رسميا.. وحتي في السلعة المسعرة منذ زمن وهي السجائر لم تضبط مباحث التموين تاجرا واحدا مخالفا للتسعيرة والحكومة أيضا لم تقدم تبريرا مقنعا بحجة اقتصاد السوق لعدم تطبيق التسعيرة أو حتي هامش للربح علي الأقل للسلع الأساسية مثل الأرز والسكر والزيت. لا أعلم ماذا سيقول رئيس الوزراء إذا رد عليه د.حنفي: "لا شكر علي واجب.. معاليك".. ولكن ما يهمني أكثر ان تتعلم الحكومة من أخطائها وأن تقتنع وهي تختار البديل أن تعديل السياسات أهم من الأشخاص وأن الجزر الوزارية المنعزلة والاكتفاء غالبا بتقرير الوزير أو بيع الكلام والأوهام لها يفتح الباب للكوارث وبالتالي عليها أن تدرس جيدا أسباب عدم نجاح المسئول السابق بدلا من الاكتفاء بشكره قبل الأوان وذلك حتي لا يلحق به الوزير الجديد لتخسر مصر الكثير ويأكل ملايين الغلابة الحصرم ويفرحون بحكومتهم "الحنينة" طيبة القلب التي تتمني التوفيق لوزير قال عنه النائب مدحت الشريف: "انه جعلنا نعيش عامين في خداع استراتيجي" ومازالت تطارده عشرات التساؤلات الحائرة من البرلمان.. والشعب المسكين!