عاشت مصر علي مدار ما يقرب من نصف قرن منذ اندلاع ثورة يوليو 1952 وتحررها من الاحتلال البريطاني الذي كان آخر صور الاحتلال المباشر. حيث سعت جاهدة إلي تأسيس دولة مدنية قائمة علي أسس ديمقراطية وترسيخ سيادة القانون وتحقيق العدالة الاجتماعية. إلا أن النظم الحاكمة لم تنجح في تحقيق تلك الأهداف تحت دعاوي الأمن والاستقرار ومواجهة التهديدات الخارجية والتآمر الداخلي. فظلت نظرية المؤامرة في الداخل والخارج هي المبرر الأول والأخير لتعطيل العمل الديمقراطي وترسيخ القانون. فما بين نظام يوليو الذي رفع شعار الاشتراكية العربية كآلية لإقامة العدالة الاجتماعية والمساواة بين الطبقات وإلغاء الفوارق والتأكيد علي أن هذه السياسات تحظي بالأولوية قبل الديمقراطية والحريات والحقوق. وظل هذا النهج حتي وقعت هزيمة يونيو 1967 لتدخل الدولة المصرية مرة أخري في دوامة الاحتلال واستقطاع جزء من الأرض يستوجب توجيه الطاقات والقدرات لإخراج المحتل وتأجيل إقامة الدولة المدنية الديمقراطية. ليأتي نظام السادات محققا نصر أكتوبر 1973 والذي كان الحلم لبدء بناء دولة مدنية عصرية ديمقراطية استبشر بها الجميع مع بدء موجة التحول الديمقراطي بعودة الاحزاب السياسية وإطلاق سلطة المجتمع المدني في بعض القضايا. إلا أن سياسات الاصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي الذي خيمت علي الاقتصاد المصري كانت ذات مردود سلبي علي حلم الدولة المدنية. لينتهي الحلم باغتيال السادات ووصول مبارك إلي الحكم في أوائل الثمانينيات من القرن المنصرم لتفرض حالة الطوارئ علي مدار الثلاثين عاما تحت دعاوي الارهاب الداخلي. ويهمش الدور المصري خارجياً تحت دعاوي الأزمات الاقتصادية والقروض والمنح وخلافه بما كبل السياسة المصرية وجعلها تدور في فلك القيادة الدولية التي آلت إلي الولاياتالمتحدةالأمريكية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن ذاته مع حرب الخليج الثانية. ورغم ذلك. استمرت محاولات بعض من النخبة المصرية والمثقفين ينشدون هذا الحلم ويعارضون الادعاءات التي قدمها النظام السابق بهدف تعطيل اقامة حكم ديمقراطي حقيقي يرتكز علي النصوص الدستورية والقواعد القانونية. فظلت ثمة فجوة تتسع يوما بعد يوم بين السلطة والمجتمع. ففي الوقت الذي تري فيه السلطة ان حلم التوريث هو الأمل في استكمال الهيمنة علي مقدرات الشعب وحقه. كان للشباب المصري رؤية مختلفة تنطلق من أن دولة القانون وسيادته وحماية الحقوق وصونها وضمان الحريات وكفالتها أمور أساسية لإقامة دولة ديمقراطية مدنية عصرية تنجح اقتصادياً وتنمو اجتماعياً وتزدهر سياسياً. لتظل جهودهم ماثلة وكفاحهم مستمراً حتي قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير التي أحيت الحلم وجددت الأمل وأشعلت نور البدء في إقامة هذه الدولة المأمولة. إل أنا انقسام الفرقاء وتشتت الاصدقاء وتفرد البعض بإدارة شئون الدولة أخمد الأمل وعطل التحرك حتي بدأت الدولة المصرية ما بعد الثورة تدخل مرحلة جديدة اطلق عليها مرحلة التمكين. وهو وصف ليس جديداً علي الساحة السياسية المصرية. بل سعي كل نظام وصل إلي الحكم بتبني هذه السياسة. فقد طبقها نظام عبدالناصر في الخمسينيات بتوزيع المناصب القيادية والتنفيذية علي عناصر القوات المسلحة وهو النهج الذي ظل محافظا عليه حتي من أتي بعده خاصة في العهد الساداتي. وإن تحرر العهد المباركي أواخره من هذه السياسة. فاستبدل العنصر العسكري في بعض المناصب بعناصر تنتمي إلي ما أطلق عليه آنذاك أمانة السياسات التي ضمت اصحاب الثقة أيضاً وليس أهل الكفاءة والاقتدار.. ووصول أول رئيس مدني منتخب إلي سدة الحكم اتسعت الآمال والطموحات حول اقامة هذه الدولة. إلا أن ما يجري اليوم من محاولات للتمكين من جانب النظام الحاكم يؤكد علي أن ثورة يناير لم تنجح في التغيير. صحيح أنها غيرت رموز النظام وعناصره إلا أن التغيير الحقيقي ليس بتغيير الاشخاص أو المؤسسات بل بتغيير التفكير وطرائقه. إن نجاح الثورة مرهون بتغيير منظومة القيم الفكرية السلبية وآليات التفكير العقيمة ومنهج الإدارة القائم علي أهل الثقة والاعتبار. واستبدال كل ذلك باتباع المنهج العلمي النقدي العقلي في إدارة الدولة القائم علي أهل الكفاءة والاقتدار. وبهذا تنجح الثورات وتحقق أهدافها وإلا المصير هو الفشل.