رغم أهمية الأحداث السياسية التي تناولها كتاب السفير عبدالرءوف الريدي "رحلة العمر" الصادر عن دار نهضة مصر للنشر.. وأهمية رؤيته ومواقفه وشهاداته التي سجلها في الكتاب بشأن هذه الأحداث.. لا سيما أنه أحد الذين شاركوا في صناعة القرار السياسي في مصر خلال واحدة من أهم فترات تاريخ العالم. عندما كان سفيرًا لمصر في الولاياتالمتحدةالأمريكية. وقت أن كانت الولاياتالمتحدة تتهيأ لبدء قيادة العالم بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفيتي. رغم أهمية هذه الأحداث.. إلا أنني لم أستطع القفز إليها فوق الجانب الإنساني في الكتاب الذي قدمه لنا السفير عبدالرءوف الريدي بصورة رائعة.. تجعلك وأنت تقرأ كتابه "رحلة العمر" تشعر وكأنك تقرأ رائعة "الأيام" لعميد الأدب العربي الدكتور طه حسين.. فهل السفير عبدالرءوف الريدي هو أديب أغرته الدبلوماسية فاقترن بها وهجر الأدب؟.. أم ما سر هذا الإبداع الذي نراه في كل سطر من سطور الكتاب..؟ انني أرشح كتاب "رحلة العمر" للسفير عبدالرءوف الريدي لكي ينال إحدي جوائز الدولة لهذا العام.. كما أرشحه أيضاً لكي يقوم المركز القومي للترجمة التابع لوزارة الثقافة بترجمته إلي اللغات الأجنبية. * * * لقد توقفت كثيرًا أمام الصور الإنسانية الرائعة التي سجلها السفير عبدالرءوف الريدي في كتابه.. والتي بقيت تفاصيلها حاضرة بقوة في ذاكرته منذ كان طفلاً. حتي شعرت بأنه قد اصطحبني معه في رحلة عبر الزمان والمكان إلي "عزبة البرج" في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي. كان والده يعمل بالتجارة في مستلزمات صناعة سفن الصيد.. وكان له متجر كبير في الطابق الأرضي من البيت.. كان الوالد يجلس علي كرسي دوار إلي جانب مكتب كبير.. أمامه "كنبة" يجلس في ركنها الأيسر الشيخ عوض العبد وهو كفيف كان يأتي يومياً لتلاوة آيات من القرآن الكريم.. أما المكان المفضل للطفل. فهو كرسي خيزران علي يسار والده.. كان الطفل يساعد في أعمال المحل. ويحلو له أن يراقب والده. ويستمع معه إلي القصص التي يحكيها البحارة العاملون علي السفن والمراكب الشراعية التي كان والده يمتلك بعضًا منها.. كانت القصص كلها تدور حول البحر.. والبلاد التي ذهب إليها البحارة.. العواصف التي واجهوها.. وكيف أن الأمواج كانت كالجبال.. وكيف أن المركب "شحطت" علي البر.. أما أحسن القصص التي كان الطفل يحب سماعها فهي قصة "رحلة الحج" التي قام بها والده إلي بيت الله الحرام عام ..1934 بدأها الوالد بالسفر وسط مودعيه إلي السويس. ثم السفر إلي جدة علي الباخرة "زمزم" التابعة للشركة الخديوية.. كان الطفل يحب الاستماع إلي هذه القصة من والده كلما جاءت المناسبة بحيث أصبحت تفاصيل تلك الرحلة مطبوعة في مخيلته. * * * ورغم أن الكتاب يخلو من صورة لوالدة السفير عبدالرءوف الريدي.. إلا أنه رسم ببراعة صورة إنسانية مؤثرة جدًا لوالدته.. بدأها بالإشارة إلي أن والده سبق له الزواج من أخري أنجبت له ولدين وبنتين ثم توفيت.. أما والدة السفير عبدالرءوف الريدي فكانت فتاة في السابعة عشرة من عمرها.. ولدت وتربت في مدينة الإسكندرية. ثم توفيت أمها وتزوج والدها بامرأة أخري. فانتقلت للعيش بمدينة دمياط مع جدها لأمها وكان قاضيًا شرعيًا.. تقدم الأب لخطبة هذه الفتاة بعد أن سمع عن جمالها وحُسن خلقها.. فوافق والدها.. هكذا انتقلت الأم من عالم مدينة الإسكندرية التي شبت فيها. ودمياط التي عاشت فيها لسنوات ودرست بمدارسها.. إلي عالم آخر هو عالم "عزبة البرج" الذي ينتمي إليه زوجها.. كان عالما غريبا عليها.. حيث لا توجد كهرباء للإضاءة.. ولا توجد مياه جارية في الأنابيب. بل تأتي المياه كل يوم مع "السقا" فتوضع في الأزيار والقلل وخزان بأعلي المنزل.. فما الذي يجمع بين هذه الفتاة الجميلة ابنة المدينة وبين هذا الرجل الذي عرف حياة البحر ولم ينشأ في المدينة؟ يقول السفير عبدالرءوف الريدي: إن هذه الفتاة سرعان ما طورت حياة زوجها والبيت.. حيث تم فرض نظام صارم للبيت في المأكل والملبس.. ثم استطاع الزوج أن يأسر قلب الزوجة بمعاملته الطيبة وحُسن معاشرته.. فأحبته.. ولكنها ظلت طوال حياتها تتوجس من هذا العالم الجديد الغريب عليها.. عالم عزبة البرج والبحر.. ورغم أن أهل زوجها أحبوها فإنهم كانوا يشعرون دائمًا أنها قادمة من عالم آخر. فكان اختلاطها بهم أقل من اختلاطها مع زوجات طبيب القرية وقموندان الساحل ومأمور الفنار.. ومع زوجة أخيها حمدي. الشقيق الوحيد لها الذي جاء من الإسكندرية ليعيش في عزبة البرج. بعد أن أقنعه زوجها بالعمل معه في التجارة للإمساك بالدفاتر والحسابات. وجدت هذه الفتاة ذات السبعة عشر ربيعًا نفسها مسئولة عن زوج. وعن تربية أربعة أبناء هم أولاد الزوجة المتوفاة.. ثم بدأت هي في الإنجاب. فكان المولود دائمًا أنثي.. في الوقت الذي كانت زوجة شقيق الزوج تلد دائمًا ذكرًا.. هكذا استمر الحال.. فكان الزوج يقول لها "إن خلف البنات يجلب الرزق".. إلي أن رزقها الله بولد بعد 4 بنات.. فتقرر أن يسمي الولد باسم أبيه "السيد" وهو أيضًا اسم سيدي "السيد البدوي" في طنطا.. وزف الزوج الخبر إلي الشيخ فرغلي الريدي شيخ المعهد الديني بدمياط.. فاقترح إضافة اسم "عبدالرءوف" إلي اسم "السيد".. فأصبح الاسم كاملاً هو: "السيد عبدالرءوف السيد شعبان الريدي". سرعان ما مرضت الأم بمرض القلب بعد أن وضعت طفلة أخري.. فشب الطفل يري أمه مريضة لا تكاد تغادر المنزل.. ورغم إشرافها الدقيق علي شئون المنزل. إلا أن حركتها كانت محدودة.. كما أنها كانت كثيرة القلق علي طفلها. فحرمه هذا القلق من اللعب مع الأطفال علي الشاطئ أو الخروج مع الصيادين في البحر العالي. أصرت الأم علي أن يتلقي طفلها التعليم الحديث.. فألحقه والده بمدرسة دمياط الابتدائية.. إلا أنه لم يكن طالبا متميزا. ولم يحب الدراسة. وتمني بعد انتهاء دراسته الابتدائية أن يتفرغ للعمل بالتجارة مع والده.. لكن الأم أصرت علي أن يواصل دراسته.. فذهب إلي المدرسة الثانوية مرغمًا.. ومن أجل ضمان النجاح له تم الاتفاق مع بعض المدرسين لإعطائه دروسا خصوصية.. لكنه لم يحب الدروس ولم يحب المدرسة. وكان "يزوغ" من المدرسة والدروس لقضاء الوقت مع الأصدقاء.. والنتيجة أنه لم ينجح لعامين متتاليين في الانتقال من السنة الأولي إلي السنة الثانية فتم فصله من المدرسة. كان في قرارة نفسه سعيدًا بذلك. كما أن والده استسلم للأمر وبدأ يشركه معه في التجارة.. إلا أن الأم المريضة لم تيأس ولم تستسلم.. انتهزت فرصة سفر الأب إلي الإسكندرية وطلبت من أخيها أن يصطحب ابنها إلي المدرسة.. هناك قابلوا الأستاذ سعد زاهر مدرس أول اللغة الفرنسية الذي توسط لدي ناظر المدرسة. فوافق الناظر علي عودة الابن إلي المدرسة.. فرح الأب بهذا النبأ. وقال لابنه: من الآن ستكون مسئولا عن شئونك. سأعطيك مصروفا شهريا بدلا من مصروف يومي. ولن أسألك عما إذا كنت قد ذهبت إلي المدرسة أم لا.. كان ذلك في عام .1946 عاد الابن إلي المدرسة.. شده إليها كثرة الإضرابات والمظاهرات التي كان يشترك فيها مع زملائه ضد الاحتلال الانجليزي.. أحب المدرسة حتي أصبح الذهاب إليها متعة بالنسبة له فنجح في كل سنوات الدراسة الثانوية الخمس بعد ذلك. وكان ترتيبه في السنة النهائية الأول علي المدرسة. فحصل علي المجانية طوال دراسته الجامعية. في تلك الأثناء.. كانت المتاعب الصحية للأم قد أخذت في الازدياد. فطلب منها الأطباء أن يكون رقادها في السرير وهي شبه جالسة بين عدد كبير من الوسائد.. وبينما كان الابن عائدا إلي البيت ليلة رأس السنة عام 1950 من جولة انتخابية مع المرشح الوفدي محمود الجمال.. دخل إلي أمه فوجدها مستندة إلي وسائدها في سريرها النحاسي. وفي الصالة المجاورة مصباح يعمل بالكيروسين ويلقي شعاعًا خافتًا ينفذ إلي غرفتها.. فتحدث إليها. لكنها لم تجب.. ساوره الشك فاقترب منها ولمسها فلم ترد.. وضع أذنه علي قلبها فلم يسمع دقات قلبها.. خرج الابن ونادي والده. ثم جاء الطبيب. وبعد الفحص أخبرهم بأنها قد انتقلت إلي بارئها الأعلي..! مازال للحديث بقية في الأسبوع القادم إن شاء الله تعالي.