استوقفني أحد الجيران وطلب مني تقديم النصيحة لابنيه الشابين الجامعيين بالتفرغ لدراستهما وترك التظاهر في الميادين والشجار يوميا في البيت بسبب الاعلان الدستوري ومشروع الدستور الجديد!! سألته: ولماذا يتشاجران؟ قال: أحدهما يؤيد قرارات الرئيس لأنه يميل للتيار الإسلامي والآخر يرفضها جملة وتفصيلا ويؤيد موقف جبهة الانقاذ ويذهب يوميا للتظاهر في ميدان التحرير أو أمام الاتحادية.. وأنا وأمهما حائران بينهما ونقضي معظم الوقت في تهدئتهما ونصحهما بترك الكلام في السياسة والتفرغ للدراسة حرصا علي مستقبلهما .. لكن لا حياة لمن تنادي. سألت جاري وصديقي العزيز وهو موظف بالمحليات: وما موقفك أنت والمدام من قرارات الرئيس ومشروع الدستور؟ قال: أنا غير راض عن مشروع الدستور والمدام مع ابنها الأكبر مقتنعة به وستذهب لتقول "نعم" في الاستفتاء. ولذلك سأضم صوتي لصوت ابني الصغير وأقول "لا" وقد لا نذهب الي الاستفتاء. قلت له: أنتم أسرة ديمقراطية نموذجية كل فرد فيها يعبر عن رأيه بحرية فما الذي يخيفك علي أولادك .. ليت كل الأسر المصرية بهذه الصورة. ردَ عليَ الرجل منزعجا: لا .. أنت لم تشاهدهما كيف يتحاوران ويتشاجران ففي معظم المناقشات تشعر أنهما أعداء ومنذ يومين تطورت المناقشات بينهما فقذف أحدهما الآخر بالحذاء وكانت ليلة سوداء!! *** ما يشكو منه هذا الرجل هو المشهد العام في مصر الآن .. في معظم البيوت وفي كل البرامج الفضائية وفي المقاهي وفي أماكن العمل وفي المواصلات العامة تجد المصريين يتشاجرون ويتبادلون الاتهامات ويتقاذفون الطوب والأحذية والشتائم القبيحة التي تشحن النفوس بكل مشاعر العداء والكراهية والرغبة في الانتقام. لم يعد بين المصريين الآن حوار عقلاني ولا نقاش موضوعي ولا مظاهر احترام للرأي المخالف. بل الاسفاف والسب والقذف والتخوين والاتهام بالعمالة هي التي تسود المشهد .. والنتيجة مزيد من مشاعر الغضب والحقد والكراهية ورغبة كل فريق في الانتقام من الآخر. أعرف صديقا عزيزا عُرف بمشاعر الود والاحترام والصبر اضطر الي إلغاء صداقة عدد من زملائه من حسابه علي موقع التواصل الاجتماعي¢ فيسبوك¢ بسبب انتمائهم لفصيل سياسي معارض لتوجهاته لأنه ضاق بالحوار معهم بسبب جدالهم ودفاعهم الأعمي واتهاماتهم للمعارضين معهم. وأعرف زميلا آخر قطع علاقته بأقرب أصدقائه بعد نقاش حاد حول قرارات الرئيس مرسي .. ولو بحثت في كل بيت ومكتب ومكان عمل ومقهي ستجد نماذج لخلافات ومشاجرات مؤسفة بين المصريين بسبب المشهد السياسي الكئيب الذي تعيشه البلاد. وإذا ما تركنا الوضع داخل البيوت وأماكن العمل والمواصلات والنوادي والبرامج الحوارية في الفضائيات وذهبت الي ميادين التظاهر والاحتجاج لشاهدت كل ما لذ وطاب من مظاهر وشعارات الاسفاف التي تسييء الي المصريين وحضارتهم وثورتهم. في ميدان التحرير شاهدت شتائم مفزعة للرئيس والمرشد يرفضها كل صاحب عقل وضمير ومنطق ثوري ولا أحد يحاسب أو يعاتب أصحاب هذه الشتائم والبذاءات. ومن فوق منصة الإسلاميين بميدان النهضة أمام جامعة القاهرة وأمام مدينة الانتاج الاعلامي حيث يحتشد أنصار الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل سمعنا شتائم وسبابا وأوصافا لمعارضي الرئيس من السياسيين والإعلاميين تعف عنها ألسنة العقلاء وكل من تربي تربية سوية. *** علي ألسنة النخبة التي تقود الرأي العام من ليبراليين وإسلاميين يسود الكذب والنفاق ومحاولة تملق الشارع وخداعه بكل الوسائل .. فالبرادعي وموسي وصباحي ومن يناصرهم من السياسيين والاعلاميين في نظر كثير من النخبة الإسلامية عملاء يخدمون أعداء الوطن ودعاة تخريب ولابد من ملاحقتهم ومحاصرتهم وردعهم حتي لا يتمكنوا من تنفيذ مشروعهم العلماني في مصر. والنخبة الإسلامية التي يتصدرها قيادات الاخوان المسلمين والسلفية والجماعة الإسلامية في نظر الليبراليين جماعات منغلقة تريد العودة بمصر الي الوراء وتفرض رؤيتها المتطرفة علي مصر وشعبها وهؤلاء يجب التصدي لهم وإعادتهم الي خنادقهم. وعلي الصعيد الرسمي فشلت السلطة الحاكمة في جمع المصريين علي مختلف توجهاتهم علي مائدة حوار وطني وانحاز صناع القرار الي صف فصيل سياسي علي حساب فصيل آخر. وهكذا .. تمزق الوطن بين تيارات متصارعة وانقسم الشعب الي جماعتين إحداهما مع السلطة الحاكمة تخرج الي الشوارع والميادين تناصرها وتدافع عن شرعيتها بكل الوسائل التي تراها مشروعة.. وجماعة أخري تخرج الي الشوارع والميادين لتعلن ثورة جديدة علي السلطة الحاكمة وتطالبها باحترام إرادة كل المصريين. وهكذا خرجنا من ثورة يناير المجيدة بكم هائل من مشاعر الكراهية ورصيد كبير من العداء والرغبة في الانتقام واختفي من حياة المصريين شعار¢ إيد واحدة¢ الذي رددوه طويلا أثناء الثورة وبعدها. لم يعد المصريون يلتقون علي هدف واحد ولا يجمعهم شعار واحد. بل أصبح بعضهم يردد "الشعب يؤيد قرارات الرئيس" ويردد آخرون "الشعب يريد إسقاط النظام" وبين هؤلاء وأولئك يظل غالبية المصريين في قلق وتوتر وخوف علي الوطن وعلي لقمة العيش وعلي مستقبل هذا الوطن الذي كان آمنا وموحدا وفشلت كل قوي البغي والعدوان في بث الفرقة والخلاف التي يعيشها الآن. فمن الذي يعيد للمصريين مشاعر الود وأجواء الحوار العقلاني وعلاقات المحبة ويحمي هذا الشعب المطحون من نذير حرب أهلية لن ينجو منها أحد؟ من يعيد لهذا الشعب وحدته وقوته وينقذه من مشاعر الكراهية التي تسيطر علي كثير من أفراده الآن والتي اقتحمت البيوت وعرفت طريقها بين الاخوة والأزواج والزوجات وزملاء العمل وأفسدت ما بينهم من مشاعر حب ومودة ورحمة. من يعيد للمصريين قيمة التسامح والتعاطف والتكافل والرحمة ويطرد من نفوسهم مشاعر الغل والحقد والكراهية؟ ملعونة كراسي السلطة والزعامة والوجاهة التي تراق بسببها الدماء وتهدر الكرامات ويتقاتل من أجلها النخبة في مصر ويدفع الشعب المسكين ثمن طموحاتهم.