سيبقى الحب دائماً من أجمل الموضوعات التي تُعقد لها النقاشات وتدور عنها الحواديت والروايات، فهو يخص صميم النفس الإنسانية بكل ما يدور فيها من أفكار ومشاعر، كما أنه من أجمل التجارب الإنسانية التي يتعرض لها الإنسان، لذلك حاز الحب على اهتمام الكتاب والأدباء بل والمفكرين والفلاسفة وعلماء النفس والاجتماع حول العالم مما دعا البعض إلى دراسته وتحليله أو الكتابة عنه وعن صفاته وأناعه ومراحله مثل ابن حزم الأندلسي في كتابه الشهير "طوق الحمامة"، وابن القيم الجوزية في "روضة المحبين ونزهة المشتاقين"، والكاتب الفرنسي ستندال في كتابه "فن الهوى". لذلك يصعب على القارئ المتابع - بل يستحيل- أن يحدد أجمل ما تمت كتابته في هذا الصدد، حيث تختلف زوايا الرؤية لدى كل كاتب عن الآخر مما يضعنا أمام تنوع هائل في القصص والروايات التي تناولت الحب والتي نستعرض بعضاً منها هنا: "قصة حب".. حرب وحب وكفاح: تكشف الأزمات التي تضرب البلاد معادن الناس وقدرة تحملهم كما تتيح لهم التقارب أكثر عندما تكشف لهم جوانب جديدة في شخصياتهم وشخصيات من حولهم. وتدور رواية "قصة حب" ل د.يوسف إدريس في غمرة كفاح مصر ضد الاحتلال الإنجليزي بين اثنين من أفراد الشعب "حمزة" و"فوزية". حمزة عضو اللجنة العامة للكفاح المسلح، وفوزية سكرتيرة لجنة المدرسات للمقاومة الشعبية، وهي مدرسة تعمل بمدرسة المنيّرة. يلتقيان في معسكر تدريب، ويحاول حمزة أن يجعل علاقته بفوزية علاقة عمل لا أكثر ويوصي نفسه أن يعاملها كما يعامل أي زميل من الرجال. وكذلك حرصت هي أن تعامله بنفس الطريقة وأن تتجنب أي مظهر من مظاهر الأنوثة في تعاملها معه. وتنجح المحاولة في البداية لكن السدود لا تلبث أن تنهار ويدرك حمزة أن فوزية أصبحت تعني في حياته ما لم تعنه أي فتاة أخرى من قبل. وأصبح يعّد الدقائق التي تتبقى على موعد حضورها وينتظرها بلهفة، وصار يرى فيها -بجانب الحبيبة- الصديقة والزوجة والأم والأخت. أما هي فقد بلغ ولاؤها له درجة المخاطرة بحياتها عندما كان مختبئاً من البوليس لدى أحد أصدقائه، فكانت تزوره لتطمئن عليه، كما ساعدته بأن حملت حقيبة ديناميت وذهبت بها إلى بيتها لتخبئها. ويجاهد حمزة ويتخبط بين دوره الوطني وكفاحه، وبين رغبته في العيش وبدء حياة جديدة مع فوزية. ويتصادمان في أول محاولة لعدم مناقشة علاقتهما، لكنها ما تلبث أن تعود لتمارس دورها كصديقة، وهمزة وصل بينه وبين الحياة في فترة هروبه، لا يأتمن غيرها بعد تخلي صديقه عنه بدافع الغيرة من حبه لفوزية!! وتنتهي الرواية بسطور مبشرة توحي بأنهما اختارا دمج الدورين وأن يعطيا فرصة لقصة حبهما أن تعيش. "شجرة اللبلاب"... مرسال الحب: من أجمل الروايات التي تتناول الحب بعمق بما فيه من مشاكل قد تعرقله أو تقتله، وهي للكاتب محمد عبد الحليم عبد الله. تدور الرواية حول حسني فاقد الثقة بالنساء، وغالباً ما يميل لاتهام كل امرأة يقابلها بأنها مذنبة ولا بد أن يبحث في ماضيها حتى يجد زلتها أو خطيئتها التي يعتقد أنها تخرج بها عن زمرة العفاف والشرف!! وقد ساعدت الظروف لكي يترسخ هذا الاعتقاد لدى حسني. فقد توفيت والدته وهو في الخامسة من عمره وتزوج والده بعد عام واحد من وفاتها بفتاة صغيرة في العشرينات. ونشأ حسني بين أب لا يمكنه السيطرة تماماً على بيته وزوجة أب تسيء معاملته وتخون والده في غيابه مع ابن عمها، مما جعل حسني يُفضل الانعزال عن الناس وقضاء الوقت في الحقول وهو فتى رقيق المشاعر وحساس. وانتقل حسني من قريته وذهب للقاهرة لإكمال دراسته وأقام في غرفة بمقربة من محل يملكه صاحبها (عم غانم). ومع الوقت، يكتشف حسني أن (عم غانم) يقيم علاقة غير شريفة مع إحدى سيدات الحارة. فيبدأ بدوره في أن يشك في زوجة غانم بالتبعية ويربط بينها وبين زوجة أبيه!! ينتقل حسني لمكان سكن آخر في أطراف المدينة، وفي الطابق الذي تحته تسكن أرملة وابنتها الشابة "زينب" ويربط بين الطابقين شجرة لبلاب. مع الوقت، يكتشف حسني أن "زينب" ليست ككل النساء اللاتي عرفهن ومررن بحياته. فقد كانت بريئة طاهرة وكان حسني سعيداً بالمشاعر التي بدأت تدب داخله وعرفت طريقها إليه لأول مرة. وكانا يستخدمان شجرة اللبلاب كطريقة للتواصل بينهما. وقد منحت زينب قلبها بدون شروط لحسني، وانتظرت منه أن يتقدم لطلب يدها بعد أن يلتحق بكلية الهندسة. ولكن تبدأ الشكوك القديمة لدى حسني وفكرته عن المرأة تنغص عليه حبه، حتى أنه لم يعد يرد على رسائلها المفعمة بالحب والعاطفة التي كانت ترسلها له أثناء إجازته في القرية. مع ذلك، استمرت علاقته بها عامين، وصار يميل إلى القسوة عليها وكأنه ينتقم في شخصها من كل النساء الخائنات غير آبه بما تسببه لها هذه المعاملة القاسية من جرح وإيلام. وبعد كل غياب في القرية، يغلبه الشوق فيعود إليها ويلاحظ أن الجفاف قد بدأ يضرب شجرة اللبلاب. ويفاجأ بخادمتها ووالدتها ترتديان الأسود ليعرف أنها مرضت بعد معاناة السهر وتعب الأعصاب حتى ذهبوا بها إلى الطبيب فكتب لها مهدئاً، وتمضي الأيام دون تحسن ويجدونها فجأة في أحد الأيام وقد ابتلعت زجاجة الدواء كلها وماتت!! وتشعر الأم بفطرتها أن هذا الشاب هو المسئول عن وفاة ابنتها فتسأله: "بني.. هل كنتما حبيبين؟ إنني أخاف أن يكون الحب هو الذي قتلها!!". ويقع حسني فريسة للذهول والمرض لمدة عامين لكنه تخرج في كلية الهندسة وعمل مهندساً للريّ في إحدى قرى الوجه البحري. وأثناء عمله، يتعرف على ابنة مقاول ويشعر أن الأمل يدق بابه بعد طول غياب وأنه سيفتح صفحة جديدة في حياته خالية من سطور الماضي. وكأنه لم يكن ليشفى من عقدته بدون زينب، وكأن "زينب" النحلة التي أعطته عسلها ثم ماتت. في نهاية الرواية يقول له أحد أصدقائه: "لقد جاهدت زينب طويلاً حتى فتحت الحصن، فتحت قلبك ثم خرّت صريعة في الميدان، وها هي فتاة أخرى تتمتع بميراثها العظيم. أنت مدين لها بما ستلقاه من سعادة مقبلة في حياة زوجية لا يشوبها وسواس ولكن احذر أن تتردد وإياك أن تقع في أخطائي، سافر إليها وتقدم طالباً يدها". "دعاء الكروان".. عندما ينتصر الحب على الانتقام: بعد فترة مرض بدني واعتلال نفسي، تقرر "آمنة" في رواية "دعاء الكروان" لطه حسين أن تبدأ صفحة جديدة في حياتها بعد مقتل أختها هنادي على يد خالها قاسي القلب. وتتحامل على نفسها فترحل إلى المدينة وتعمل في بيت المأمور وتنشأ علاقة صداقة بينها وبين خديجة ابنة المأمور، ورغم ذلك لا تفارقها صورة اختها هنادي المقتولة. وتشاء الأقدار أن يكون المهندس الذي سلب هنادي عفتها جاراً للمأمور ويتقدم لخطبة خديجة فتعمل آمنة على إفساد ذلك، وتحتال حتى تتمكن من دخول بيته، ذلك المهندس الشاب الذي غرّر بالكثير من الفتيات ومنهن هنادي. دخلت آمنة بيته لكي تعمل كخادمة في ظاهر الأمر ولكن بهدف القصاص في باطنه. وتراقب آمنة الشاب المهندس وتتساءل من يكون وما الذي يملكه لكي يغوي الفتيات بهذا الشكل؟ وتتصارع داخلها قوى الخير والشر، فهي في أصلها فتاة طيبة لكنها مصرة على الانتقام، والانتقام ليس من شيم الطيبين. ويحاول المهندس -كما يفعل مع أخريات أن يغوي آمنة لكنها تتمكن من حماية نفسها وترفض مراراً. ومع الوقت، بدأ يشوب رغبتها في الانتقام منه انجذابٌ خفي لكنها تأبى الانجراف وراء ذلك الإحساس الغريب. ومع تكرار محاولاته لإغوائها ورفضها، تحوز على احترامه وتتغير معاملته لها كخادمة لتكون أقرب للصديقة أو الحبيبة. ثم يتحول الاحترام لحب فعلي ويطلب يدها راجياً أن يكون ذلك نهاية لعبثه وتكفيراً لما صدر منه مع كل الفتيات من قبلها. وينتصر الحب داخل آمنة على رغبتها في الانتقام منه لكن القدر لا يمهلها ليتحقق لها ذلك. "إبراهيم الكاتب" وتعدد الحبيبات!! هل يمكن أن يعيش الرجل ثلاث قصص حب في وقت واحد؟ وهل يتسع قلبه لثلاث نساء في ذات الوقت؟ وإن أقنع نفسه بذلك، فكيف يوفق بينهن؟ هذا هو السؤال الذي حيّر البطل وشغل فكره في رواية "إبراهيم الكاتب" لإبراهيم عبدالقادر المازني. حيث يجد نفسه واقعاً في هوى ثلاث سيدات بشخصيات مختلفة!! لا يمكنه تحديد أيهن أقرب إلى قلبه، ويجد أن كل امرأة منهن تعطيه شيئاً مختلفاً لا يمكن للأخرى أن تعطيه إياه. بالطبع لو تم طرح هذا السؤال على البنات لكان ردهن: بالطبع لا.. فالمرأة تؤمن بأنه من الخيانة أن تكون تحب رجلاً وتلتفت إلى آخر، لذلك فهي تعطي نفسها قلباً وروحاً وعقلاً وقالباً لرجل واحد. تدور الرواية حول إبراهيم الذي توفيت زوجته منذ سنوات ولم يتبق له من أهله غير والديه. ويخضع إبراهيم لعملية جراحية ما، وفي المستشفى يتعرف على فتاة سورية، كانت متزوجة في الإسكندرية ولديها طفل لكنها ترملت مبكراً وأصبحت تمارس الحياكة والتطريز حتى يمكنها إعالة نفسها وولدها بجانب عملها ممرضة في المستشفى. ونشأت علاقة حب سريعة بينهما لكنه يتركها لكي يسافر إلى الريف لدى أحد أقربائه كنوع من النقاهة وتجديد الأجواء. وفي القرية هناك، يلتقي بابنة خالته "شوشو" التي كان يلاعبها ويحملها وهي طفلة ولكنه تفاجأ بأنها أصبحت شابة يافعة. ويبدأ إبراهيم الكاتب في الإحساس بمشاعر مختلفة عن الأخوة تجاه شوشو ويتتبع قلبه!! أما الفتاة الثالثة في حياة إبراهيم فهي "ليلى" فتاة منطلقة ومتحررة التقى بها أثناء رحلته إلى الأقصر في أحد الفنادق. وكانت فتاة جريئة لا يهمها رأي من حولها فكانت تتردد عليه في غرفته، وتخرج معه أمام الناس وتجلس معه في وقت كان من الصعب تقبل مثل ذلك التصرف من الفتيات. وتعرف ليلى بقصة حب إبراهيم ل"شوشو" فتنسحب من حياته بهدوء، بينما كانت "شوشو" قد يئست من انتظاره وحيرته فوافقت على الارتباط بأحد الأطباء الذي كان يخطب ودها من قبل. وتنتهي الرواية وإبراهيم لم ينجح في أي حب من الثلاثة بسبب حيرته وعبثيته وبحثه اللانهائي عن معاني الحياة بينما الحياة تجري بين يديه!! حين يكون الحب "نقطة النور" في حياتنا: في رائعة بهاء طاهر "نقطة النور" نجد كذا قصة حب تجمع بين الباشكاتب توفيق أفندي و"سمية"، وبين "سالم" و"لبنى" وبين "فوزية" و"فرّاج". تتشابك خيوط القصة كما تتشابك مشاعر الأبطال فيها وتتعقد حتى تظلم الدنيا ولا نكاد نرى نقطة نور. فكل شخصية تبحث عن ذاتها، تحاول أن تفهم الحياة من حولها خصوصا الباشكاتب "توفيق" الذي يهمه أمر حفيده "سالم" الذي يصاب حالات تشنج وهيجان لم يستطع الأطباء تفسيرها. و"سالم" الذي يشعر بغربة في عالم كبير واسع متلون، ولا يمكنه كثيرا التعبير عن مشاعره حتى في أقوى لحظاتها وهو مع لبنى. الحب في هذه الرواية الرائعة هو نقطة النور في رحلة البحث عن معنى وجودنا في الحياة. تعرف سالم على لبنى في الجامعة، يقول الراوي مخبرا عن سالم: "ظل يقاوم طويلا الاعتراف بأنه يحب لبنى. كان لها في الكلية أصحاب وصاحبات وكثيرا ما رآها وسط مجموعات من الطلبة. أما هو فلم يكن له في الكلية أصدقاء، قلة من الزملاء كان يتبادل معهم التحية في المدرج وربما أسئلة عابرة عن الأساتذة والمحاضرات، وتنتهي علاقته بهم عند هذا الحد، وعندما كانت بعض البنات ينظرن نحوه وفي عيونهن إعجاب ودهشة، كان يبذل كل جهده ويختفي عن الأنظار.......... ابتعد في الكلية عن لبنى بالذات. لم تكن هي أجمل البنات لكنها لفتت نظره منذ رآها. كانت تلبس باستمرار بلوزة بيضاء قصيرة الكمين وجونلة واسعة. تضع يدها في جيبها وتمشي وسط ممرات الكلية كما لو كانت مسرعة إلى هدف ما، لكنها تتوقف بين حين وآخر وتتلفت حولها ويبدو عليها أنها غير واثقة من وجهتها، أو تميل بنصف جسمها إلى الخف دفعة واحدة كأنها ستعود أدراجها بالسرعة نفسها لكنها تمضي في طريقها. عندما تتكلم أيضا كانت تميل برأسها قليلا إلى جانب وتخرج الكلمات من فمها متقطعة ومترددة. ظل سالم يراقبها من بعيد حريصا ألا تنتبه إليه، أحب عينيها العسليتين وشعرها الكستنائي المقصوص الذي يصنع دائرة حول وجهها وتتدلى منه خصلتان صغيرتان كعلامتي استفهام بجانب الأذنين. أحب أكثر من ذلك شيئا ما في مشيتها وطريقة كلامها". تستمر علاقتهما لسنوات بين شد وجذب وصراعات وسفر وهجران. وفي آخر الرواية، وبعدما تعود لبنى من إيطاليا تكتشف عن قناعة أن خلاصها ونقطة نور حياتها هو سالم، فتتوجه لبنى إلى "السيدة زينب" حيث يسكن سالم وجده بحثا عنه. تجلس في الصالون في انتظاره رغم أنها تشعر أنها تسرعت.. تبكي، يسألها عن سبب بكائها.. فتقول له: حدثني ماذا يقول جدك عن الأرواح. يقول كل الأرواح جميلة وكلها طيبة. وهل قال لك يا سالم ما الذي ينقذ هذه الأرواح؟ نعم، قال: الحب!