سمعت كثيرا عن نبذ التطرف وعن الشعارات التي تغنى بها المصريون طوال عصور فنحن دائما قادة العالم في معاداة التطرف ودائما كنا ضد مبدأ "معاداة السامية" ونحن عشاق لزعماء التحرر على مدى التاريخ من أمثال غاندي ومانديلا وجيفارا. نحن من صنعنا الجماعات الإسلامية وعدنا لنبذها وكنا أول من يدافع عن فلسطين وأفغانستان والبوسنة والشيشان والعراق وحتى فيتنام، دائما ما نرى أنفسنا أصحاب الفضل في الحريات، وقادة التحرر ونكره بشدة أن تتدخل الولاياتالمتحدة في شئوننا الداخلية على الجانب السياسي. الحريات في الأساس فكرة اجتماعية والدعوة إليها دينية وليست وليدة منظمة مراقبة حقوق الإنسان، فالإسلام قاد العالم نحو الحرية ونبذ العنف والتطرف والابتعاد عن تقسيم البشر استنادا للون أو الجنس. لم أكن أتصور أنني ذات يوم سأرى مشهدا كذلك، ربما رأيت تزوير الانتخابات وشاهدت تطاول "السفهاء" على "الشرفاء" وقرأت عن الفساد السياسي والأخلاقي والاجتماعي. شاهدت التظاهر من أجل كاميليا شحاتة، قرأت عن الفتنة الطائفية التي اندلعت منذ عقود لتفصل بين المصريين على أساس الدين وسرعان ما انتشرت انتشار النار في الهشيم فتجردت من أسمى المعاني الإنسانية التي ينادي بها الإسلام والمسيحية على السواء. تعلمت وأنا أحاول أن أنطق أولى كلماتي أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قال "لا فرق بين عربي ولا أعجمي إلا بالتقوى" وعرفت لاحقا أن المسيح عيسى عليه السلام نادى في الناس أن من كان منهم بلا خطيئة فليرمها بحجر. وبعد سنوات من المعيشة في مصر، وجدت أن هناك فرقا كبيرا بين الأصل والصورة، بين ما نادى به النبي محمد وبين أفعال المسلمين من جانب، وبين ما دعا إليه "يسوع" وما ينتهجه أتباعه. بالأمس دخل المصريون في نفق جديد فبعد الفصل بين المسلمين والمسيحيين وربما يؤدي ذلك ذات يوم إلى سودان جديد، يبدو أن القادم هو فصل العقول عن الرؤوس والسير في طريق الفصل بين الناس على أساس اللون والعرق وهو ما تركه العالم منذ عصور ونحن في "أم الدنيا" سنفكر في القيام به، من أجلك أنت أولا ومن ثم مستقبل أولادك!! لم يهمني كثيرا الدافع وراء سب محمود عبدالرازق "شيكابالا" لاعب الزمالك أثناء مباراة القمة أمام الأهلي مساء الأحد، ولم يهمني أيضا أن أصفه بالنجم، أو ماذا قدم لفريقه أو ماذا فعل لجماهير مصر ليستحق هذه الإهانات. القضية لا تنحصر في من هو أو لمن يلعب، القضية في الأساس هي لماذا أصبحنا كذلك؟ لماذا نسير من قاع إلى آخر؟ ولدينا اعتزاز بذلك وفخر بما وصلنا إليه، وفي النهاية لدينا إصرار بأننا الأفضل والأكثر أدبا ورقيا وأننا قادة التنوير. أعلم جيدا أن ما حدث للاعب الزمالك يحدث في أوروبا، فمثلا المهاجم الإيطالي ذي الأصول الغانية ماريو بالوتيللي فضل الرحيل عن إنتر ميلان أحد أفضل الأندية الأوروبية وغادر إيطاليا كلها وانتقل إلى مانشستر سيتي الإنجليزي المتواضع النتائج بعدما هاجمته الجماهير الإيطالية بسبب لونه. يقول المثل الدارج في مصر "ملقوش في الورد عيب قالوله يا أحمر الخدين" نحن أصحاب هذا المثل الذي يحمل بين طياته تعجبا ودهشة ونحن أيضا أصحاب الفعل والقائمين عليه، والسبب بسيط لأننا أعجب شعوب الأرض. في الصباح لدينا القناعة التامة بالحرية، وفي المساء نحن من أمسك القلم ليسود بطاقات الانتخابات التشريعية. في الصباح نلعن الحكومة والفساد واليوم "اللي اتولدنا فيه في مصر" وفي المساء نحن من يغش ويسرق ويقتل ويرتكب أبشع الجرائم على ظهر الأرض. ما زلنا نتفوه بأعجب الكلام "انت عارف أنا مين" و"الزم حدودك" ونفرق بين "صعيدي" و"فلاح" وبين "مسلم" و"مسيحي" وبين "غني" و"فقير" وبين "أهلاوي" و"زملكاوي" ومؤخرا بين "أبيض" وعذرا في الكلمة "أسمر" فالله عز وجل هو من خلق الاثنين ورزق الاثنين وقلب قلوب الاثنين وقادر على رحمة الضعيف والاقتصاص من القوي المتجبر، ألا تعلم ذلك؟ يحكى أن الشعب المصري اتسم قديما بالأدب والذوق الرفيع، ذلك الشعب الذي نشأ على الحرية وكان أول مصري تولى زمام حكمه هو الراحل جمال عبد الناصر قبل حوالي 60 عاما من الآن، شعب عشق فن أم كلثوم ثم بدأ "يتفنن" في كيفية الهبوط بالذوق العام وكتابة أغاني "الحشيش"، شعب بغض حكومته وعندما يدعوه الجميع إلى الانتخابات يعد العدة ويغلق الأبواب ويبحث في المقام الأول عن المرشح الذي سيستفيد منه. أنا ضد كل تلك الشعارات السخيفة بداية من الدينية والربط بين السياسة والإسلام، وانتهاء بأن الحكومة هي المسئول الأول عن التزوير والفساد، فنحن أصحاب "العلامة التجارية" و"حقوق الطبع والتوزيع" لتلك الآفات التي كلما "نخرت" أجسادنا نتلذذ. في النهاية أحكي لك مشهدا بسيطا دائما ما يذكرني بهذا البلد، عندما أتوجه إلى محطة السكة الحديد لحجز تذكرة السفر إلى الصعيد لزيارة أهلي، هناك جانبان للوقوف الأول أمام الشباك والآخر بداخل القاعة والأساس هو "من أنت". إذا كنت من أصحاب المقام الرفيع فيمكنك اقتطاع التذكرة من الداخل وبالتأكيد ستحصل عليها وإن لم تكن موجودة، وإذا ما كان حالك كحال قاطع التذكرة "انتوا الاتنين غلابة" فهو لن يدعك تحصل عليها بسهولة فإما سيتحدث معك بطريقة غير لائقة "الأنفة والغطرسة" أو ربما سيقول لك "مفيش تذاكر يا أستاذ" بالرغم من أن هذا الموظف "من طينتك وغلبان زيك وكل يوم بيشكي الغلاء والفساد وبيلعن الحكومة". أتدري ما الفارق بين المنتظر أمام الشباك والجالس على الكرسي بداخل القاعة؟ الإجابة: هو نفس الفارق بين الأبيض والأسود.....