حسام مصطفى إبراهيم موت المُبدع -في العادة- لا يُعبّر إلا عن انتقاله من حياة فانية مُرهِقة، إلى أخرى أكثر ديمومة وخلودًا، أما فنه وإبداعه فيبقى ما ظلّ مُعبِّراً عن قضايا الناس وهمومهم، ومنحازًا لأحلامهم وتطلعاتهم، وقادرًا على العبور بهم نحو لحظات أكثر صفاء وسعادة. ولعل أكبر مثال على ذلك، هو شيخ كتاب السيناريو، المبدع "عبد الحي أديب"، الذي على الرغم من رحيله، وغيابه عن دنيانا، فإن فنّه وشخوصه وعوالمه التي صاغها ونحتها بصبر من قلب مصر، لا تزال ترافقنا، وتُفضي إلينا بمكنونها، وتمنحنا لحظات غالية من السعادة والتواصل والمتعة. بدايات وجذور تنسّم عبد الحي أديب أول أنفاس الحياة، في 22 ديسمبر عام 1928 بمدينة المحلة الكبرى، التابعة لمحافظة الغربية، ولبّى نداء ربه يوم 10 يونيو، في أحد مستشفيات سويسرا، عن عمر يناهز 87 عاماً، حيث كان يعاني من عدة مشكلات مع القلب. وتزوّج من السيدة بسيمة محمد في عام 1949، ورزق منها بثلاثة أولاد، الأكبر هو الإعلامي والكاتب الصحفي عماد الدين أديب، الذي يرأس الآن مجموعة شركات جود نيوز, والابن الأوسط الإعلامي اللامع عمرو أديب، مُقدّم برنامج القاهرة اليوم على قناة أوربت، والأصغر هو المخرج السينمائي عادل أديب الذي أخرج فيلم "ليلة البيبي دول"، عام 2008 آخر أفلام والده. وما بين البداية والنهاية، مشوار طويل، بدأه أديب بدراسة فنون التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، الذي تخرّج فيه عام 1956، ثم عمل مساعدًا للمخرج الراحل يوسف شاهين، وقدّم معه في عام 1958 فيلمه الأول "باب الحديد" الذي يعدّ من أهم كلاسيكيات السينما المصرية. وبعد ذلك، تفرّغ أديب لكتابة السيناريو، وانطلق ليحلّق عاليا في سماء الفن، بعد أن أخذ على عاتقه مهمة الرصد الاجتماعي للتغيرات التي طرأت على المجتمع المصري، بالتزامن مع المتغيرات السياسية واختلاف الثقافات، فكان صوت الإنسان البسيط، وصوت من لا صوت له. بصمات وإنجازات وعلى الرغم من قلة الفترة الزمنية التي مارس فيها أديب فنه، فقد استطاع أن يصبح أغزر كُتاب السينما في مصر، مع المحافظة على الجودة والأصالة، فقدّم ما يربو على المائتي فيلم، راصدًا عبرها قطاعًا كبيرًا من أهم مشاكل المجتمع المصري، ومتعاملاًً خلال ذلك مع عدد من أهم المخرجين، حيث قدم مع المخرج نيازي مصطفى وحده ما يقارب الثلاثين فيلما، كما تعاون مع صلاح أبو سيف، ويوسف شاهين، وعاطف سالم، وهنري بركات، وعز الدين ذو الفقار، وإيناس الدغيدي، وغيرهم. ومن بصمات أديب التي لا تُنسى، مشاركته في تأسيس جمعية كتّاب ونقاد السينما، التي نشأت في منتصف السبعينيات، برئاسة كمال الملاخ، وكانت وراء تنظيم أول مهرجان سينمائي دولي في مصر، وهو "مهرجان القاهرة السينمائي الدولي"، وتبع ذلك تأسيس "مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي" الذي تناوب على رئاسته عدد من المؤسسين، ومن بينهم أديب نفسه. ومن الطفرات التي أدخلها أديب أيضًا، أنه كان أول كاتب مصري يعتمد ويطرح نظام "الورشة" في كتابة السيناريو، وأقام بالفعل أول ورشة سيناريو مصرية، ضم لها -تحت رئاسته- مجموعة من كتّاب السيناريو الشباب، الذين أصبحوا فيما بعد كتّابا محترفين، أمثال: أحمد عبد الوهاب، ورؤوف حلمي، وعبد القادر نجيب، ووليد سيف. أشهر أفلامه ومن أشهر الأفلام التي رسّخت شهرة أديب، وجعلته من أهم كتّاب السيناريو في مصر والعالم العربي، "باب الحديد" و"أم العروسة" و"امرأة في الطريق" و"صغيرة علي الحب" و"جناب السفير" و"بناء على النيل" و"سوق السلاح" و"أنا الهارب" و"الخبز المر" و"البدرون" و"بيت القاضي" و"ديسكو ديسكو" و"استاكوزا" و"مذكرات مراهقة" و"امرأة واحدة لا تكفي" و"ليلة البيبي دول". واللافت أن هذا الكم من الأفلام، تنوع في الموضوعات التي يعالجها، فمن الاجتماعي للنفسي للسياسي للقومي، في توليفة مبتكرة، ضمنت لأديب الريادة، ومنحته تأشيرة مفتوحة للإقامة في قلب الدراما السينمائية للأبد. تكريم مستحق وبفضل موهبته اللافتة، وإقبال الجماهير على متابعة أفلامه، وغزارة إنتاجه السينمائي، تُوج أديب بالعديد من الجوائز والأوسمة، فحصد جائزة أحسن سيناريو عن فيلم "سعد اليتيم"، في مهرجان جمعية الفيلم، ونال جائزة أحسن سيناريو من المهرجان القومي للأفلام الروائية عن فيلمه "ديسكو ديسكو". كما وصل فيلمه "أم العروسة" إلى التصفيات النهائية للأوسكار، ضمن فئة الفيلم الأجنبي، في منتصف الستينيات، وكان محل اقتباس العديد من الأفلام الأجنبية التي عالجت نفس الموضوع فيما بعد. وشارك فيلمه "باب الحديد" في مهرجان برلين السينمائي الدولي في مطلع الستينيات، وتم اختيار أربعة من أفلامه، في استفتاء تم إجراؤه لأفضل فيلم مصري، وهي أفلام: (باب الحديد، وأم العروسة، والخائنة، وصغيرة على الحب). الحياة مرة أخرى وبرحيل شيخ كتّاب السيناريو عبد الحي أديب، انطوت صفحة خصبة من تاريخ الإبداع الفني، وفقدتْ السينما واحدًا من أهم المهمومين بقضاياها، وحُرِم البسطاء والمهمشون من أقوى المدافعين عن حقوقهم في حياة كريمة، لكن عزاء هؤلاء جميعا، أن ما قدمه الراحل سوف يظل ساطعا في سماء حياتنا الثقافية، لا يطويه نسيان ولا يجور عليه زمن، ومع كل فيلم نشاهده له، وكل حكاية نتذكرها له، سوف نراه يحيا من جديد، ويتحدث إلينا باللغة التي عشقها، ويقف معنا في الصف، مطالبا بحياة مختلفة، ومستقبل أفضل، وأحلام حقيقية قابلة للتحقق والتنفيذ.