ماتت والدتي بين يدي في المستشفى، بعد صراع طويل مع المرض اللعين، فأحسست أن ظهري قد انكسر ولم أعد قادرة على تخيل حياتي بدونها!، فقد كانت بالنسبة لي أكثر من مجرد أم، كانت صاحبة وصديقة وحبيبة، ولما ذهبتْ أخذتْ معها كل مبررات وجودي!، صحيح أنها تركت لي أخوين، لكن كل منهما مشغول مع زوجته، ورغم معيشتي مع والدي فلا يوجد بيننا أي حوار!، حتى خطيبي لم أعد أعرف كيف يمكنني أن أتعامل معه، ولم أعد أفكر إلا في الانتحار حتى ألتقي والدتي مرة أخرى، لكني أخاف الله سبحانه وتعالى وأصلي وأقرأ القرآن، وكلما فكرت فيما آل إليه حالي، بكيت، لا أريد من أحد أن يخبرني أن البكاء حرام، أنا أعرف ذلك، لكن ماذا أفعل مع كل هذا الحزن الذي يعتصرني، ولا يمنحني أي بارقة أمل في الغد؟!! ولكاتبة هذه الرسالة أقول: أحسست بنفس ما تصفين يا صديقتي وربما أكثر ! يوم توفي والدي رحمه الله سبحانه وتعالى، وقد كان سيدي وتاج رأسي وكل ثروتي وكنزي ومددي من الله سبحانه وتعالى والبشارة والطريق والمبدأ والمنتهى. لكني في لحظة تأمل، خرجتْ على مهل من أعماق الوحدة وفرط الحنين، حتّمتها شدةُ انسحاقي تحت وطأة ما أحمله على قلبي وفوق أنفاسي، أدركتُ -فجأة- كم أني أناني، ولا أحب والدي بالقدر الذي كنت أتصور !! فحزني على رحيله وحرماني من وجوده في حياتي، أنساني أنه كان يتعذب ويعاني مما لا قبل له به!! أنساني أن رحيله في هذا الوقت إنما جاء بأمر من خبير حكيم، يدرك ما لا ندرك، ويعلم ما لا نعلم، ولاشك أنه تتويج لرحلته الطويلة، وإيذان بحصوله على الراحة والمكافأة التي تتناسب مع ما بذل من جهد، وما صبر عليه من ابتلاء خلال مشوار الحياة الصعب. وكأني بنفسي أُفضّل ألمه وشقاءه مع وجوده أمام عيني، على حرماني منه مؤقتاً وإلى لقاء قريب، مع هناءته وراحة باله وخلعه أعباء الحياة وأثقالها التي لا ترحم من فوق كتفيه الناحلين !!! نقطة أخرى في غاية الخطورة ساهمت هى الأخرى في إعادتي لرشدي: الله سبحانه وتعالى عندما يبتلي عبداً بالمرض، ثم يقبضه في نهايته، فإنما يكون ذلك لعدة أسباب: أولها: أن الله سبحانه وتعالى يحب هذا العبد، ويرغب في تطهيره مما أسرف على نفسه به من الخطايا والذنوب -وكلنا أصحاب ذنوب- ولما أن عمله لا يبلغه المرتبة العليا التي تفضلت العناية الإلهية باختياره لها، يأتي هذا المرض ليرفع من قدره ويجعله مستحقاً لهذه المرتبة. وثانيها : أن هذا المرض إعداد نفسي لنا وتهيئة لملاقاة فقدان الأحبة، وما أقسى أن نستيقظ ذات يوم فنجد أن عزيزنا قد مات بلا سابق مرض و لا تعرضه لحادثة أو أي شيء مما يتكأ عليه الناس لتبرير الموت والتصبر عليه !! وثالثها: أن في ذلك العبرة والعظة التي ربما تفيقنا من غفلاتنا وسكرات الدنيا التي تشتد علينا يوماً بعد يوم، وربما رحيل عزيز لدينا يذكرنا بالآخرة خيراً مما تفعل آلاف الشرائط وخطب الخطباء! والرسول صلى الله عليه وسلم كان دائم الاستعاذة من موت الفجأة. ثم : من منا سيكتب له الخلد يا أختي؟! ومن يدري مَن سيحمل مَن غداً؟! سمعت أحد الأصدقاء يقول في تعزية آخر : " الحمد لله أن والدك قد وجد من يحمله إلى القبر، يا ليت حظنا يكون مثله!" ولا أحد فوق الموت، ولا أحد يعرف أين الخير وأين الشر ولو أوتي علم البشر أجمعين. والله سبحانه وتعالى الذي خلق هذه الحياة، أمدها بكل عناصر الاستمرار وتخطي المحن والصعاب، ولو كانت ستتوقف وتزول لتوقفت يوم مات سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. لكنها استمرت يا صديقتي، ووصلت إلينا، وغداً تذهب لغيرنا، بعد أن نؤدي ما علينا ونذهب لحال سبيلنا، وفي ذلك أكبر عزاء لنا : أن لا أحد سيخلد وأن يوم لقاء الأحبة آت بلا ريب . ولو كنت تحبين والدتك بحق يا صديقتي وأنا واثق من ذلك فلابد أن تفيقي سريعاً مما نزل بك، وتحتسبينها عند الله سبحانه وتعالى، وتبدئي في عمل أهم شيء في الوجود من أجلها: أن تصلحي من شأنك وحالك مع الله وتدعين لها لعلك تكونين الولد الصالح الذي يدعو لها ويكون سببًا في حصول الرحمة والمغفرة فيكون حبك بذلك عملياً وحقيقياً ورائعاً جداً. كما لا يفوتك أن تبري صديقاتها ومن كانت تبرهم، ففي ذلك مزيد من الحسنات يضاف إلى رصيدها ورصيدك أيضاً. ولا ضير من أن تبكي عليها، فإن الله سبحانه وتعالى لا يحاسب على حزن القلب، بل إن كبار الصحابة كانوا أيضاً من كبار البكائين، من خشية الله جل شأنه، ورؤية آلائه ونعمه التي لا يقدرون رغم اجتهادهم على أداء حق شكرها كاملاً. وهذا موقف سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم حال موت ولده إبراهيم، عن أنسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ( دَخَلْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي سَيْفٍ الْقَيْنِ وَكَانَ ظِئْرًا زوجاً لمرضعة ابن النبي الكريم لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلام، فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِبْرَاهِيمَ فَقَبَّلَهُ وَشَمَّهُ، ثُمَّ دَخَلْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِبْرَاهِيمُ يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَجَعَلَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَذْرِفَانِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ابْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : "وَأَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّه؟"ِ فَقَالَ : "يَا ابْنَ عَوْفٍ إِنَّهَا رَحْمَة"،ٌ ثُمَّ أَتْبَعَهَا بِأُخْرَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "إِنَّ الْعَيْنَ تَدْمَعُ وَالْقَلْبَ يَحْزَنُ وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يَرْضَى رَبُّنَا وَإِنَّا بِفِرَاقِكَ يَا إِبْرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ" ) صحيح البخاري. فلا ضرر من البكاء وحزن القلب ما لم يُسلم إلى رفض القضاء الذي لا يُرد والخروج من طائفة الموحدين إلى طائفة الشاكين. رحم الله سبحانه وتعالى والدتك يا أختي، وأسكنها فسيح جناته، إنه ولي ذلك والقادر عليه، ورحمك أنت أيضاً ويسر لك التعامل مع حياتك ومفردات عالمك الجديد بما يزيد من رصيدك عند الله، ويرفع من درجة والدتك في عليين، ويحل في روحك السلام وراحة البال. فقط لا تستسلمي لليأس، ولا تساعدي الشيطان على نفسك، و لا تغفلي رؤية مدد الله إليك في التفاف من يحبونك حولك، وفرص الحياة الكثيرة أمامك. وحتى تتمكني من أخذ الخطوة التالية للأمام .. تصوري أن والدتك تراقبك من خلف السحاب، وتنتظر منك أن تحققي ما كانت تتمناه لك في الدنيا، وما تظن أنك أهلٌ له، وسوف تجدين أنك قادرة على فعل كل شيء وأي شيء بسهولة ويسر إن شاء الله. حسام مصطفى إبراهيم