عبر 247 مادة أظهرت وثيقة "عمر وموسى" رؤية متطابقة مع طريقة "مبارك" فى الحكم، وتستند إلى محور أساسى، وهو: "تقسيم مغانم الدولة على المؤسسات القابلة للانضواء تحت مظلة الانقلاب". وسترى حالا أنهم نثروا مواد المحاصصة بصورة ذكية! عبر الوثيقة، ثم شغلوا الإعلام بمسائل أخرى لا تثير العامة بينما تشبع غرور المثقفين المتبارين فى المدح أو القدح لمواد الحريات ونسبة العمال والفلاحين وأسبقية انتخابات الرئاسة أو البرلمان، وذلك فى وقت ترسخ الوثيقة لدولة (المحاصصة البيروقراطية والسياسية)، كطوق نجاة يعيد العصمة من جديد للعسكر... وهذه جولة فى وثيقتهم تظهر هذا الوجه القبيح: أولا. حصانة الفنانين والأدباء وإطلاق العنان لتدمير الهوية: ففى المادة (67) بعد أن كفلت حرية الإبداع نصت على: "ولا يجوز رفع أو تحريك الدعاوى لوقف أومصادرة الأعمال الفنية والأدبية والفكرية ضد مبدعها إلا عن طريق النيابة، ولا توقع عقوبة سالبة للحرية فى الجرائم التى ترتكب بسبب علانية المنتج الفنى أو الأدبى أو الفكرى..". وبجوار إزالته لمادة حظر الإساءة للرسل والأنبياء، فإن الحصانة قد شملت أهل الفن والأدب ليصولوا ويجولوا ويؤكدوا مناهجهم التغريبية حماية للنظام من اكتمال الصحوة الإسلامية، ولكى يتأكد التصاقهم بالنظام وضمان ولائهم له وخوضهم المعارك لصالحه، لخطورة تأثيرهم العقلى والوجدانى كما هو معلوم. ثانيا. قبلة الحياة للأحزاب العلمانية: حيث نصت المادة (74) على (.. ولا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى أو بناء على التفرقة.. إلخ". وهذه إضافة لم تكن موجودة فى دستور 2012 والذى نصت المادة (6) فيه على ".. ولا يجوز قيام حزب سياسى على أساس التفرقة بين المواطنين بسبب الجنس أو الأصل أو الدين". والحقيقة أن عبارة (على أساس دينى) لن يتم تفسيرها علميا، ولكن سيخضع لهوى القائمين على الحكم، والذين أفصحوا بالحال والمقال أن (المرجعية الإسلامية) هى إحدى محظورات إنشاء الأحزاب، رغم ما هو معلوم أن (الأساس الدينى) يكون فى الحالات التالية: 1. إذا اشترط الحزب طائفة دينية لأفراده أو لقياداته أو لممثليه فى مؤسسات الدولة وسلطاتها. 2. إذا قام الحزب على أساس الدفاع عن حقوق طائفة معينة، أو مناهضة وعداء طائفة دينية وطنية أخرى. ولكن تفسير نخبة الانقلاب هو المعمول به الآن، وهذا ما يعنى حصار الأحزاب الإسلامية لصالح الأحزاب العلمانية، وإفساح الساحة لها وتوفير ضمانات التمدد والتمويل، سواء منها من كان فى الحكم أو المعارضة، فالمسافة بينهم ستكون قصيرة حيث يعمل الجميع فى إطار النظام الانقلابى وبشروطه. ثالثا. تأكيد سيطرة السلطة التنفيذية على القضاء: ونشير هنا فقط إلى المواد (186، 193، 194): - ففى المادة (186) أعاد للقضاء حق الندب الكامل أو الجزئى فقال: ".. ولا يجوز ندبهم كليا أو جزئيا إلا للجهات وفى الأعمال التى يحددها القانون...". فى حين أن دستور 2012 (مادة 170) رفض الندب الجزئى فقال: "... ولا يجوز ندبهم إلا ندبا كاملا..". لأن الندب الجزئى يجعل القاضى مستشارا لوزارة ما مساء وقاضيا صباحا، وقد تُعرض عليه (كقاض) منازعة لوزارة يعمل لديها (مستشارا)، وفى هذا مهانة له من وجهين؛ الأول لأنه تحول من (سلطة) إلى (موظف) لدى جهة تنفيذية، والثانى النَيْل من استقلاله كقاض، كما أن قضاة الندب الجزئى كانوا ذراعا للسلطة التنفيذية فى القضاء ثم كثروا وتزايد نفوذهم حتى جعلوا القضاء كله ذراعا للسلطة التنفيذية، ولذلك كان الندب الكلى مطلبا أساسيا للقضاة المستقلين، ولكن عودة [صفقة] (جزئيا) تجعل السلطة التنفيذية مسيطرة على القضاء برضاه، بالإغداق عليهم ليظلوا تابعين، ومن ثم لا يصبح القضاء (سلطة) أصلا. - ثم تأتى المادة (193) لتطلق عدد أعضاء المحكمة الدستورية وتقول (تؤلف المحكمة من رئيس و"عدد كاف" من نواب الرئيس..) لتعود الترضيات والتحكم فى أشخاص المحكمة لضمان ولاء أكبر عدد منهم للسلطة التنفيذية، بعد أن كان دستور 2013 فى (مادة 176) قد حدد العدد بالرئيس وعشرة أعضاء. - ثم حصنتهم وثيقة موسى فى المادة (194) فقالت (رئيس ونواب رئيس المحكمة الدستورية العليا ورئيس وأعضاء هيئة المفوضين! مستقلون وغير قابلين للعزل)، فإذا تم استقطابهم بعين خبيرة مثل تعيينات "مبارك" فسيظلون شوكة فى جنب أى مجلس أو حكومة تخرج عن السياق، ويحركهم "القصر" وفق إرادته مثلما رأينا مواجهتهم ل"د.مرسى"، ورغم أن المحكمة الدستورية ضمانة للشعب إلا أن هيكلتها فى ظل سلطة انقلاب كانت شريكا أساسيا فيه، ثم مَنْحها كافة التحصينات يعنى ضمان ولائها و(استغلال مخالبها) وليس استقلالها كما يروج مثقفو الانقلاب. رابعا. سلطنة المجلس العسكرى: لم يرض الانقلاب حتى بالصيغة التركية الضامنة "لدسترة" تدخل الجيش فى صياغة الحكم، ولكنه فرض سلطان (عناصر الجيش) على ما سواها من الشعب: - فالعنصر الأول: وهو وزير الدفاع حيث نصت المادة (201) على (... وهو القائد العام للقوات المسلحة ويعين من بين ضباطها). وإلى هنا لا مانع باعتبارها فترة انتقالية حتى تسمح الظروف بأن يكون الوزير مدنيا. ولكن أضيفت المادة (234) ليكون تعيينه بعد موافقة المجلس الأعلى فقالت (... يكون تعيين وزير الدفاع بعد موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة). ومن ثم يصبح الجيش مستقلا تماما من (الناحية الإدارية والسياسية عن الدولة) ويكون المجلس العسكرى (كعنصر ثان) محصنا ومستقلا. - ثم أضافت المادة (203) تحصين مناقشة الميزانية فقالت (… ويختص "أى مجلس الدفاع الوطنى" بالنظر فى الشئون الخاصة بوسائل تأمين البلاد وسلامتها ومناقشة موازنة القوات المسلحة، وتدرج رقما واحدا فى الموازنة العامة للدولة). حيث حصن (العنصر الثالث) وهو" الميزانية" بإدراجها رقما واحدا، وهذا ما ثارت ضده الملايين ولم ينص عليه دستور 2012 (مادة 197) حين عالجت الموضوع نفسه، ومن ثم يصبح الجيش مستقلا من (الناحية المالية عن الدولة). وهكذا يتم استقلال: -وزير الدفاع -قيادة الجيش -ميزانية الجيش -أفراد الجيش ويتم وضعهم جميعا خارج إطار المساءلة، مع منحهم كافة القدرات التى تبسط سلطانهم الكامل على الدولة، فيصبحون (دولة بلا مواطنين تحكم مواطنين بلا جيش). خامسا: الكنيسة شريك فى الحكم: تحركت الوثيقة عكس اتجاه التاريخ؛ ففى زمن تخلصت فيه أوروبا من حكم الكنيسة فتقدمت، تناضل الكنيسة مع العسكر لتعود إلى الحكم. وقد انتقلت "الكنيسة" نقلة جبارة بهذا الدستور، وأضحت مؤسسة رئيسية فى الحكم وذلك كالآتى: ومن ثم تتمدد الكنيسة منفردة فى ربوع الوطن، لتتمم رؤيتها الاستراتيجية فى إظهار الوجه المسيحى لمصر عبر تشييد أكبر عدد من المؤسسات الكنسية، يأتى بالرضا الغربى للعسكر. - ثم فازت بالمادة (244) التى أسست للمحاصصة الطائفية فقالت (تعمل الدولة على تمثيل الشباب والمسيحيين والأشخاص ذوى الإعاقة والمصريين بالخارج تمثيلا ملائما فى أول مجلس للنواب). وسيحدد القانون هذه (الكوتة) التى ستكون بداية حقيقية لمشاركة الكنيسة (كمؤسسة سياسية دنيوية) طبقا لنسبتها فى مؤسسات الحكم بعد ذلك فى الدولة. لتنتقل "الكنيسة" من مجرد (مفعول به) إلى شريك أساسى بمظلة انقلاب يُقصِى الإسلاميين والإسلام ويُمكِّن لها حيث أثبتت ولاءها وفاعليتها. يأتى هذا مع تقليص دور الأزهر لتبعيته، ولضعفه السياسى الذى يجعله سندا ضعيفا! سادسا. تمكين رجال الأعمال: لم يكن تمكينهم فقط عبر تجاوز ما سبق من تخريب منظم لثروات الوطن، ولكن أيضا بتحصينهم من الملاحقة، حيث تم إسقاط المادة (204) من دستور 2012 والمختصة بإنشاء (المفوضية الوطنية لمكافحة الفساد)، ووضع فى الوثيقة الجديدة المادة (218) والتى جاءت مائعة وأناطت محاربة الفساد بالأجهزة التى صنعته! مع صياغة إنشائية مثل (وتعزيز النزاهة والشفافية) وأمثالها، وذلك لعودة احتضان رجال أعمال "مبارك" لمساندة السلطة والعمل تحت ظلالها، بعد الهروب من استحقاقات العدالة الاجتماعية وعدم الانتصار للفقراء والمهمشين بالوثيقة. هذه قراءة سريعة فى عقل الانقلابيين تؤكد عودة دولة الفساد وتهميش الوطن لحساب عسكر، يستهينون بثورة الشعب، ويحاولون السيطرة على مؤسسات الدولة عبر رشوتها بعيدا عن عين العدالة، وبعد تغمية عيون المواطنين. وثيقة حقيرة تنيئ عن نفوس قميئة لا تستحق إلا المقاومة والإسقاط. مكملين.. لا رجوع..