إثر سقوط فرنسا فى الحرب العالمية الثانية على يد ألمانيا النازية عام 1940، أبرم المارشال هنرى فيليب بيتان رئيس الحكومة الفرنسية -آنذاك- اتفاقية الهدنة مع ألمانيا والتى بموجبها أنشئ خطٌ فاصلٌ يقسم فرنسا إلى قسمين: الأول: شَمالًا، ويبلغ ثلاثة أرباع الأراضى الفرنسية، ويخضع مباشرةً للقيادة العسكرية الألمانية، والثانى: جنوبًا، ويبقى خاضعًا لسيادة فرنسا برئاسة بيتان فيما عرف بحكومة فيشى نسبةً إلى بلدة فيشى التى شهدت تصديق الجمعية الوطنية الفرنسية على تلك الهدنة، إلا أن الشروط التى تضمنتها جعلت السيادة الفرنسية صوريةً من الناحية العملية. ونظرًا لتبنى تلك الحكومة بعض مبادئ النازية واليمين المسيحى المتطرف، فقد أثار ذلك حفيظة الشعب الفرنسى مما دعاه لرفضها، وكان على رأس هؤلاء الرافضين الجنرال شارل ديجول، فغادر إلى لندن، وقام -هناك- بتشكيل حكومةٍ وطنية عُرفت بحكومة فرنسا الحرة، عمل على اجتذاب العديد من دول العالم للاعتراف بها فى مقدمتها بريطانيا، كما ظفر بتأييد عددٍ من حكام المستعمرات الفرنسية، فانتقل بحكومته إلى الجزائر باعتبارها -وقتئذٍ- الإقليم الجنوبى لفرنسا، فتحولت حكومة المنفى إلى حكومة فعلية. وقد قادت حكومة فرنسا الحرة بزعامة ديجول المقاومة الفرنسية للمحتل النازى ومليشيا حكومة فيشى، وفى أغسطس عام 1944 وصلت قوات الحلفاء بصحبة ديجول إلى باريس، وبعد تحريرها فى سبتمبر من العام ذاته أعلن ديجول إلغاء حكومة فيشى بجميع تشريعاتها، وحُكم على بيتان ورئيس حكومته بيير لافال بالإعدام، وخفف الحكم عن الأول إلى السجن الانفرادى المؤبد حتى مات فى عام 1951، بينما نفذ حكم الإعدام على الثانى رميًا بالرصاص فى عام 1945. ورغم أن حكومة فيشى كانت تتمتع بالشرعية التى حصلت عليها بتصديق الجمعية الوطنية الفرنسية على اتفاقية الهدنة مع ألمانيا التى أوجدتها، إلا أن انجرافها إلى الإيمان ببعض مبادئ الحزب النازى واليمين المسيحى المتطرف بما يخرج عن المبادئ الأساسية للمجتمع الفرنسى، جعل الشعب الفرنسى يعلن رفضه لها، ويسقط شرعيتها التى تحولت إلى حكومة فرنسا الحرة، مما دفع الكثير من الدول إلى الاعتراف بها، تلك الشرعية هى التى سوغت لديجول إسقاط حكومة فيشى، وإلغاء كل ما صدر عنها من تشريعات. وليس الماضى ببعيدٍ عن الحاضر؛ فالأحداث تكرر نفسها مع الفارق فى الزمان والمكان والأشخاص، فما شهدته فرنسا من ملحمةٍ قادها ديجول، يحدث الآن فى مصر بزعامة الرئيس الشرعى لها، ومن محبسه المختطف فيه، وبتنفيذ رئيس حكومةٍ عُيِّن من قِبله بحسب ما كشفه صحفيون، ومن الجدير بالذكر أن سلطة الانقلاب فى مصر وُلِدت ميتةً منعدمةً لا تتمتع بأى شرعية تُذكر، لأنها لم تكتسب الشرعية لوجودها من الشعب أو ممثليه كما فعلت حكومة فيشى، بل إنها قامت على أنقاض الشرعية الدستورية القائمة على تخومٍ شعبيةٍ واسعة النطاق فى المجتمع المصرى بكل طوائفه، وحاولت فرض وجودها المرفوض شعبيًا بالقوة المسلحة المفرطة قتلًا وحرقًا للمتظاهرين ضدها بشكلٍ سلمى، ما يؤكد افتقادها للشرعية. كما أن الأمر يختلف إلى حدٍ كبير عند الحديث عن حكومة مصر الحرة فى المنفى، لأن المجتمع الدولى -باستثناء خمس دولٍ- لم يعترف بسلطة الانقلاب فى مصر، على عكس ما حدث بالنسبة لحكومة فيشى فى فرنسا، فلن تضطر الدول إلى سحب اعترافها بسلطة الانقلاب لأنها لم تعترف بها أصلًا، فضلًا عن أن ما قام به ديجول من إلغاء كل تشريعات حكومة فيشى -بعد إسقاطها- بحسبان أنها منعدمةٌ لا أثر لها، يدق ناقوس الخطرِ أمام الدول التى لها تعاملات دولية مع مصر؛ إذ إن كل ما يصدر عن سلطة الانقلاب ليس له وجودٌ من الناحية القانونية، وسيكون مآله الإلغاء لدى عودة الشرعية كما فعل ديجول بقوانين فيشى، ولن يكون مُلزمًا للشعب المصرى، ومن ثم فلن تجد الدول مناصًا للحفاظ على ما ينشأ عن تعاملاتها مع مصر من حقوقٍ سوى الاعتراف بحكومة المنفى والتعامل معها -دون غيرها- كأساسٍ لاعتراف المصريين بتلك الحقوق. _________________________ رئيس محكمة المنصورة الابتدائية، عضو المكتب التنفيذى لحركة "قضاة من أجل مصر"