انحياز "حزب الكنبة" لجانب الشرعية يقلب موازين القوة ويعجل بدحر الانقلاب معاذ سعيد حوى: الرؤية الإسلامية للإقناع تعتمد على التوعية وليس الانقياد محمود مصطفى: خطاب الحقائق وتفنيد الرؤية المقابلة يحققان نتائج أفضل د. يحيى عثمان: يجب التركيز على الأمل بأن الحق سينتصر والانقلاب إلى زوال د. أحمد التهامى: إبراز مخاطر الانقلاب دوليا ومحليا يدفع الصامتين للحراك يرى المحللون والسياسيون أن التعويل على فئة أو ما يسمى ب"الأغلبية الصامتة" أمر مهم وضروري؛ لأن تلك الكتلة بانحيازاتها التى قد تأتى متأخرة عن غيرها، قد تقلب موازين القوى؛ وتحقق كسرا محقا لنظام الانقلاب العسكرى الدموى. الحقيقة أن الكتلة الصامتة "حزب الكنبة" ليست من ابتكار الشعب المصرى، أو هى حكر عليه، بل هى موجودة فى كافة المجتمعات وعبر مختلف العصور التاريخية، وفى حديث أخير مع اللواء عادل سليمان -الخبير العسكرى والمحلل الاستراتيجى- أشار ل"الحرية والعدالة" إلى أن المجتمع الأوربى والأمريكى نفسه ليس على ما يبدو للبعض من سمات المعرفة والوعى والثقافة؛ بل على العكس فالفئة الغالبة هناك لا تذهب إلى لجان الانتخابات ولا تعرف كثيرا عن المرشحين أو الفرق بينهم. وقد أورد "غسان المفلح" فى ورقته التى جاءت تحت عنوان: "الكتلة الصامتة.. رعاية الاستبداد خوفا أو طمعا" وذلك فى قراءته للثورة السورية فى شهرها الثالث، أورد ما قاله المفكر "برهان غليون" حين أشار إلى "أن هناك جماعة من الشعب السورى مازالت صامتة، وهى مجموعة مهمة وليست بالقليلة.. وأن أحد الأسباب الرئيسية وراء هذا الصمت هو قلقهم من تبعات ذلك على الاستقرار.. وهنا نتحدث عن رجال الأعمال والمهن والصناعيين والاقتصاديين.. حياة هؤلاء تطلب الاستقرار ويعتقدون أن نظام الأسد يؤمن لهم هذا الاستقرار". وقد عرفهم الصحفى السورى –غسان الإمام- بأنهم "كتلة بشرية خامدة محافظة متمسكة بالتقاليد وكنيسة الأحد ومسجد الجمعة.. كتلة مرتاحة ماديا، همها استقرار هذا الوضع، الأمنى والآمن". وهذا ما يؤكد أن النظر إلى الجماهير بواقع ثلاثة مداخل هو أمر مهم، فالأولى: فئة مؤيدة لا تحتاج سوى إلى مزيد من الدعم النفسى والمعرفى، والثانية: الفئة المعارضة، وهى جماهير لا يُعوّل عليها كثيرا موجهى وصانعى الخطابات بل يعتبرون ذلك مضيعة للوقت، فأغلب تلك الفئة لن تنسلخ مما تعتقده بسهولة، أما الفئة الثالثة: فهى الأغلبية الصامتة والتى لم تنحز إلى أى تيار بعد، وهى غالبا الهدف من أى عملية إقناعية تعانى التحيزات والتحيزات المضادة. "التزكية" فى مقابل "التجييش" وعادة ما يكون توجيه الخطاب أو محاولة الإقناع لتلك الفئة ذا اتهام بالاستغلال والمتاجرة، وادعاء بالدفاع عن حق تلك الفئة الثالثة. وبتفنيد هذا الطرح نجد أنه طالما كان هذا الاستغلال حكرا على الأنظمة القهرية والديكتاتوريات القائمة على القمع، ولا يستثنى من ذلك حتى ما يسمى بعصور التنوير الأوربية؛ حيث اصطحبت تلك الحقب أعتى الأنظمة القمعية القائمة على "التجييش" والسيطرة؛ وهو ما نظّر له "جوستاف لوبون" -أحد أهم مؤسسى علم النفس الاجتماعى الحديث- حيث اعتمد على أفكار "لا عقلانية الجماهير"، وإمكانية التأثير عليها عن طريق عواطفها اللاواعية، ومقاربة له ما كتبه "فرويد" حين اعتبر أن "الخطر يكمن فى أن الجماهير تستجيب لغير الحقيقة كما تستجيب للحقيقة، فهى ببساطة لا تملك آلية مساءلة وتفريق بينهم". كما رأى عالم الاجتماع الفرنسى "جان بورديارد" فى كتابه " فى ظل الأغلبيات الصامتة" "أن الجماهير تقبل صور المعانى ولا تقبل جدليتها، وأنها تتميز بالسلبية حيث إنها لا تتجاوب بندية، بل فقط تمارس الامتصاص لأى شىء يُركَز عليه بكثافة". وهو بالضبط ما بنى عليه كل من "هتلر" و"موسولييني" سيطرتهم القمعية، على الرغم من فداحة جرائمهم بحق تلك الشعوب. ولذا فقد يكون مناسبا أن تقوم النظرية الخطابية لمؤدى الشرعية على مبدأ قديم جديد، مبناه الرؤية الإسلامية فى التوعية لا فى "التجييش"، وهو مبدأ "التزكية" القرآنى، وفى ذلك يقول د. معاذ سعيد حوى -دكتوراه فى الفقه وأصوله- فى بحث له نشرته مجلة إسلامية المعرفة فى عددها 45 للعام 2008، إن علم التزكية من العلوم المهمة التى بعث لأجلها النبى -صلى الله عليه وسلم- مصداقا لقوله تعالى: ".. وَيُزَكِّيكُمْ".. وهو فى مقام الإقناع يعنى التوجيه نحو أفضل استخدام للعقل، بعيدا عن الرؤية التى تعنى الانقياد فاستعمال العقل على وجه صحيح والاستفادة منه فى الوصول إلى الصواب والحق هو تزكيته، بأن يطهره من التفكير المنحرف والنتيجة المنحرفة الخاطئة، وأن يلازم استعماله فى التوصل إلى الحقائق والانتفاع منها". وعليه يعتمد التوجيه الإيمانى على طلب المعلومة والتعقل فى الفهم والإدراك، وهو ما يطمس عليه الخطاب الديكتاتورى، وينفرون من التوجيه على أساسه، ولذا عادة ما تأتى الخطب الرنانة للديكتاتوريات معتمدة على العاطفة وكثرة الجمل التى ليس لها رد سوى "التصفيق". الصدق والحجة من جانبه، يقول د. محمود مصطفى -أستاذ الإعلام بجامعة اليرموك- إن المدخل الأهم فى إقناع "الفئة الصامتة" يتأتى عن طريق توجيه خطاب من شخص له قابلية لديها، ويفضل أن يكون من نفس خلفيتها الفكرية، ثم يأتى بعد ذلك عامل سلامة الرسالة الموجهة ذاتها؛ بضرورة أن تحوى معلومات وحقائق، وإذا كانت تعالج آراء مختلفة فعليها أن تطرح وجهتى النظر. ويشير مصطفى إلى أنه بالفعل هناك العديد من الرسائل التى بها مغالطات وأكاذيب وفى الوقت نفسه تحقق قناعة لدى البعض، ويفسر ذلك بأن تلك الرسائل تتفق مع الهوى أى مع ما يسمى ب"سيكولوجية المتلقى"، أما الفئة الصامتة فميزتها أن "سيكولوجيتها" لم تنحز بعد مع هذا ولا ذاك. ويشدد على أن خطاب الحقائق وتفنيد الرؤية المقابلة هو الذى يحقق نتائج أفضل مع الشخص المحايد، وذلك بشكل أكبر بكثير من حديث العاطفة والمشاهد المؤثرة. أما د. يحيى عثمان -المستشار النفسى- فيرى أن آلية الإقناع تعتمد على نوعية الفئة المخاطبة حتى داخل الكتلة الصامتة، فداخل تلك الفئات تكمن نفسيات مختلفة، والخطاب يعتمد على معالجة القصور النفسى للشخصية، فهناك صاحب النفس المصابة ب"الخوف"؛ وهذا خطابه يكمن فى الحديث الدينى المباشر، بفلسفة قوله تعالى: "قل لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا" وغير ذلك من الآيات والأحاديث التى توضح أن الأمر بيد الله. وهناك فئة النفسية السلبية التى تتميز بعدم المبالاة والبحث عن المنفعة الخاصة، وهذه تظن أنها إما فى أمان يحميها من أى تغيرات، وإما أنها تظن أنها ضائعة بالفعل ولن يكون لها وجود على أى الأحوال، وخطاب هذه الفئة عن طريق توليد الدوافع الإيجابية لديهم؛ مثل سرد للعوائد التى ستعم علينا إذا ما نجحت مناهضة الانقلاب. وثالثا فهناك الشخص "المتردد" بناء على دوافع سلبية كامنة، وخطابه يكون بسرد للمخاطر التى ستحيط بنا مثلا فى حالة استمرار الانقلاب. ويشدد عثمان على أهمية أن نبعث الأمل فى قلوب الشعب بأن التغيير آت آت سواء شاركوا فيه أم لم يشاركوا. وفى السياق نفسه، ترى الكاتبة ماجدة شحاتة، أن كثرة الوقائع وتلاحقها سيدفع الفئة الصامتة للاختيار الصائب، فهى تقبع خلف أجهزة الإعلام تترقب، وهى مترددة فى اتخاذ المواقف، وكلما تكشفت خيوط المؤامرة وتجدد الحراك الثورى وتصاعد، دفع ذلك الجميع لإعادة التفكير وتقدير الأمور. وتضيف أن المقارنة بين الأسس التى ارتكز عليها الانقلاب بنقضها وتفكيكها أو عرض للأوضاع الاقتصادية ومستقبلها، كل ذلك هو من خطاب من يكره أسلمة الصراع؛ ولكن من ليس لديه حساسية من هذه "الأسلمة" فلابد من الانطلاق بتسمية الأمور بأسمائها، وسرد المبررات الحقيقية للمؤامرة. ولفتت إلى أنه لابد من العروج على التاريخ لشرح مخطط استذلال الأمة وتفكيك الخلافة وتقسيم عالمنا واحتلاله، ثم مواصلة المهمة من خلال الوكلاء، فشىء طبيعى أن نعرف -كما كل الدول- من هو العدو الحقيقى للأمة، منبها إلى أن نقل هذه التفاصيل وتجسيدها من صميم أدوار المثقف؛ حيث يترجمها أعمالا تشكل بوصلة الرأى العام. بدوره، يقول د. أحمد التهامى -خبير العلوم السياسية بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية- إن المجتمع يضم فئات وكتلا مختلفة، وهناك صراع بين كتلة ثورية شعبية تسعى للتغيير وكتلة فلولية تسعى للحفاظ على مصالحها، وبينهما قطاعات أخرى قد تكون كتلة صامتة أو متأرجحة تميل ناحية إحدى الكتلتين المتصارعتين وفقا للمناخ السياسى السائد وحسابات الربح والخسارة والخطاب السياسى. وهذه الكتلة قد خضعت لعمليات منظمة وعلى مستوى عالٍ جدا من التضليل والتلاعب بالعقول من خلال الإعلام والفضائيات والصحف خلال السنة الأخيرة، وبناء عليه اتجهت قطاعات منها لتأييد الانقلاب فى البداية باعتبار أنه يمكن أن يخلص مصر من الأزمة بسبب الدعاية الإعلامية المكثفة؛ خاصة أن هذه الكتلة نفسها تفضل الاستقرار وتميل إليه تلقائيا. ويضيف: لكن حقائق الواقع وما حصل من مجازر واستمرار صمود وثبات القوى الشعبية والثورية بدأ يؤدى إلى تحرير تدريجى فى العقول ويكشف زيف الدعاية الإعلامية وحروب -البروباجندا- الإعلامية الدولية. ويتابع التهامى أن البيئة الثورية المناهضة للانقلاب والحفاظ عليها يؤدى لكسر السلبية تدريجيا خاصة إذا ما اقترنت بحملات لزيادة الوعى السياسى ومخاطبة الناس على قدر عقولهم واحتياجاتهم. فلا بد هنا من استخدام آليات التوعية عن طريق سرد التنبؤات بمخاطر الانقلاب وما يؤدى إليه من كوارث على وضع مصر دوليا ومحليا. هذا بخلاف بيان النموذج الثورى الإيجابى المقنع للناس. وحول ما إذا كانت هناك تجارب تاريخية سياسية اعتمد حراكها على هذه الفئة وراهنت عليها، يرى التهامى أن كل الثورات تقوم على أساس الكتلة المؤمنة بالفكرة ولكنها تسعى لاستقطاب أو تحييد قطاعات من الكتل الأخرى حتى لا تكون عائقا فى سبيل نجاح الثورة. وحتى فى النظم الانتخابية تكون الكتلة التصويتية المتأرجحة بمثابة عامل الحسم النهائى بين الأحزاب المتنافسة للوصول للسلطة، فكل حزب لديه قاعدة مؤيديه وهى ثابتة تقريباً، ولكن ما يحسم المعركة هو انحياز قطاعات كبيرة من الكتلة المتأرجحة إلى حزب معين فى اللحظات الأخيرة، مما يحسم الصراع والمنافسة لصالحه. ويكمل التهامى أنه لا توجد لذلك طريقة سهلة بالطبع، ولكنه عمل شاق وجهد ضخم من الحوار والنقاش والإقناع؛ يؤكده الصمود والثبات فى الشارع مما يعزز الأمل فى النجاح ويجذب قطاعات أكبر وشرائح أوسع من الناس لتأييد مشروع الثورة وأهدافها. وحول الفارق بين الجماهير التى كتب عنها منظرو الغرب خاصة "جوستاف لوبون" وبين ما تشهده مصر حاليا، يقول-التهامى- إن الاختلاف أننا فى سياق ثورى ومن ثم ليست كل الجماهير يمكن أن تُساق، فالكتلة الحرجة الثورية تشكلت وتوسعت ولا تقبل أن تروض أو تخضع لحكم القوة والقهر مرة أخرى. ولذلك يستمر الصراع خلال الفترة القادمة بين تلك الكتلة الحرجة الواعية من جهة، وقوى المصالح التى تساند الانقلاب، وذلك مراهنة على وعى الشعب فى عمومه من أجل الوصول لحسم الصراع. ويتفق –التهامى- على اعتبار أن مهارات الخطاب القائمة على المصالح والحقوق ولغة الأرقام، هى ما يجب توجيهه للفئة الصامتة، فى حين يشير إلى أنه يجب الأخذ فى الاعتبار التنوع الفكرى والطبقى والاجتماعى للناس.