قبل الاستفتاء على دستور 2012 بأيام التقيت أحد كبار رجال الدولة (من الإخوان) وقلت له: هذه هى المرة الأولى التى يطَّلع فيها الشعب على أركان الدولة ويراها دون حواجز، فأريد فى جملة واحدة توصيف المؤسسات الآتية: الجيش، الشرطة، القضاء. فقال لى بتركيز شديد: الجيش نصف قياداته جيدة ونصفها فاسد. والشرطة كلها (خربانة) والمستعان هو الله. أما القضاء فلا أمان له، ولو على أبواب لجان الانتخابات. كانت الإجابة مفاجئة لى نسبياً، حيث عُرف عن هذا الرجل التفاؤل وتخفيف حدة التحديات إلى أدنى حدودها لمحاوريه؛ فكون نصف قيادات "الجيش" فاسدة وتابعة لأمريكا - كما عرفت بالتفصيل فيما بعد - فهذا سقف من الفساد أعلى كثيراً مما كنت أظنه، وكون "الشرطة" لا أمل فى أى من قياداتها فهذه صدمة تشعرك بحجم التحدى وقتها، أما المفاجأة الخاصة بالقيادات القضائية فسببه ما توهمناه من أن الفساد قاصر على مجرد حرصهم على المميزات الواسعة مقابل الولاء، بالإضافة لما هو شائع من عوامل الفساد التى خالطت كل مؤسسات "دولة مبارك"، أما أن تكون المؤسسة القضائية لاعبا سياسيا، ولها مناوراتها، ولها اجتماعات فى الظلام بعيداً عن أماكن ممارسة سلطتها أمام وتحت أعين الشعب، فهذا كان مفاجئاً أيضاً، ويختلف هذا مع ما نعرفه عن بعض القضاة المنغمسين فى اللعبة السياسية والتى يمارسونها بكل تفاصيلها التآمرية. وقبل الانقلاب بعدة أسابيع سألت أحد مستشارى الرئيس (وهو من الإخوان) عن تصوره الشخصى للمرحلة، فحدثنى بآيات من الثبات، ثم أنهى كلامه بجملة مفاجئة حيث داعبنى قائلاً: لقد جرب جيلنا أنواع المحن كلها من مطاردة وتضييق ومصادرات ومعتقلات، ومن يعلم لعلنا نقترب من عالم الشهادة فى سبيل الله!!. الكثير من أصدقاء "الإخوان" كانوا يلومون عليهم عدم تعاملهم بحسم مع الإعلام الذى يفسد عقول الناس، ولكن الذى رأيته أن الذى اكتشفه "الرئيس" وحكومته من أحوال البلاد كان كافياً لتدمير إرادة أى رئيس وأية حكومة لولا صمود هذا الرجل ومعاونيه. وقد كشف لنا الانقلاب عن بعض الحقائق ومنها: أولاً- كان الباحثون المدققون لا يلتفتون كثيرا إلى الدعاية الإعلامية "لجيش مصر" عبر العقدين الماضيين، وكان ثمة اقتناع أن (قيادة الجيش) التى أسسها "طنطاوى" كانت لبناء عقيدة "السلام مع إسرائيل" وليس "الاستعداد للعدو الإسرائيلى"، وبالتالى فلم تكن هذه القيادة غاضبة من اتفاقيات "كامب ديفيد". هذا ما كان يتصوره أشد الباحثين شجاعة أو تجنياً على "قيادة الجيش"، ولكن الحقيقة التى فجرها الانقلاب أن "قيادة الجيش" تحولت مهمتها لتكون هى "الضمانة للوجود الإسرائيلى الآمن"، وهذه العقيدة تم بناؤها بصبر وتؤدة، وبأيدٍ (مصرية – أمريكية - إسرائيلية) برضا (أوروبى - خليجى)، وقد تم البناء عبر منظومة (انتقاء صارم للقيادات العليا - ولاء تام من القيادات الوسطى لقيادتها - انضباط كامل للرتب الصغرى -دعاية إعلامية قوية للجيش)، ووفقا لهذا النهج فقد أصبح سائغا تلك المزايا والمرتبات الفلكية التى تحظى بها القيادات العليا ومنها (شيكات بدل الولاء) التى كانت تصدر من "مبارك" شخصيا، ثم إسباغ المزايا على الصفوف التالية من الضباط. ثانياً- تحول الجيش بعد ذلك إلى ما يشبه مؤسسة مدنية ربحية تمتلك (ربع إلى ثلث الاقتصاد المصرى). وبمرور الوقت ازدادت الطبقات القيادية بمستوياتها المختلفة تماسكاً وولاء، والتصقت القيادة بنظيرتها الأمريكية دون أدنى تناقض فى المصالح !! ولذلك لم نسمع عن محاولات لتنويع مصادر التسليح والإفلات من السيطرة الأمريكية التامة على التسليح والتدريب، وبالتالى على اختيار القيادات بشكل غير مباشر عبر مَنْح أعلى التدريب والشهادات المؤهلة لتقدم الصفوف، أو بشكل مباشر عبر اللقاءات الضيقة مع "مبارك وطنطاوى". ثالثاً- ستلاحظ أن الغالبية العظمى لضباط الجيش مناصرين لأى تصرف ينتهجه "المجلس العسكرى"، وستلاحظ أن قدراتهم على الحوار ضعيفة للغاية، وأن إدراكهم السياسى مثل العامة من غير المتعلمين، لكنهم متماسكون ومنضبطون حول قيادتهم، وهم لا يفرقون بين أحقية هذه (القيادة) فى قيادة (الجيش) أو قيادة (الدولة) فكل شىء بالنسبة لهم مبنى على (عصبية قبلية للقيادة لا للوطن)، بالإضافة لبعض الأوهام السياسية مثل (ضرورة أن يعود الأمن والانضباط للبلد) وكأن البلد معسكر يحتاج لشاويش!!. ومعنى ذلك هو عودتنا لفترة الولاء للأشخاص والارتباط المصلحى بهم، على حساب الولاء للوطن والرسالة الأسمى للقوات المسلحة. رابعاً- ومن أخطر ما حدثنى به أحد قيادات الجيش هو نزول هذا الكم الكبير من الأفراد والمعدات (قدَّره البعض بثلث الجيش) والاختلاط بالحياة المدنية مما يفقد الأفراد الاستعداد القتالى، ويصبح مرور الوقت على الأفراد بعيدا عن معسكراتهم بمثابة التدمير الممنهج للقوات المسلحة، وإخراجها تماما من القدرة على ردع العدوان، هذا إذا كان هنالك من يحرص على إعداد مقاتلين، أو التحسب من أعداء!! خامساً- كذلك فقد أظهر الالتحام - الذى شرحناه - بين "المجلس العسكرى" و"وزارة الدفاع الأمريكية" حقيقة أخرى، وهى أن "مصر" تابعة (لأمريكا - القوة) وليس (لأمريكا - السياسة) وبالتالى فإن الملف المصرى يدار يومياً عبر (موازين القوى) بالمنطقة، والتى تحافظ على (التفوق العسكرى الإسرائيلى)، ولا تدار عبر الموازنات والمصالح السياسية، والفارق واضح، وهو أن الساسة حتى ولو كانوا أمريكان ومتآمرين فإنهم سيراعون آثار أى قرار (مثل الانقلاب) على المجتمع وشرائحه وتفاعلاته، والتى ربما لا تراعيها (ذراع القوة العسكرية)، بمعنى آخر فإن الحقيقة الجديدة التى ظهرت أمامنا أن (أمريكا - العسكر) هى صاحبة القرار والتنسيق، وليست (أمريكا - الإدارة)، وبالتالى فإن الحلول السياسية فى الأغلب لن يكون لها دور فى المرحلة الحالية إلا حين يشعر الجميع بفشل حلول القوة الغاشمة؛ لأنه ما دامت القوة والسحق والقتل هو معيار اتخاذ القرار الانقلابى، فإن المواجهة لن تكون إلا بالصمود والثبات والاستعداد الدائم لتقديم التضحيات وإيقاظ الشعب وضمه للثورة، وتظل المعركة هى (معركة إسقاط إرادات) وليست (معركة مكاسب وخسائر)، وقد كان المفترض سقوط إرادة المدنيين العزل، لولا أن العسكر لم يفطنوا إلى خطورة (العقيدة) التى حركت الجماهير ضد الانقلاب وأربكت حسابات العسكر (المصريين - الأمريكان)، ولولا انشغال "إدارة أوباما" بالوضع الداخلى المتأزم مع الخصوم الجمهوريين لرأينا مبادرة أمريكية تنقذ الأوضاع الغارقة، وتخفف آثار العبث العسكرى بدولة كبيرة مثل "مصر". سادسا- مازلنا نرى ونؤكد أن "الجيش" لم يعد على قلب رجل واحد، خشية تدهور الأوضاع، بعدما تأكدوا أن الشارع لن يرجع عن مطالبه، وأن الأوضاع الاقتصادية والمجتمعية لا أمل فى إصلاحها، ولكن مشكلة القصاص من" السيسي" و"إبراهيم" وأعوانهما مازالت تضعهم فى بوتقة واحدة لأنهم لا يدركون إلى أى مدى سيكون القصاص، لذا فنحن نميل إلى تصديق الأخبار التى تروج لاستغاثة بعض القيادات لتدخل سياسى أمريكى (أو برعاية أمريكية) حتى تقدم مبادرة حلول وسط، وحتى هذا التاريخ سيظل الوضع على ما هو عليه , ولا نتوقع أى نجاح لوساطات داخلية، حيث لا يمتلك العسكر الخيال السياسى الذى يخرجهم من المأزق. سابعا- حقيقة ثانوية فجرها الانقلاب، وهى أن مشكلة ضباط أمن الدولة كادت تتوه فى زحام الضغوط السياسية والاقتصادية فى السنوات الثلاث السابقة، لاسيما وأن غالبيتهم غير معروفين، أما الآن وقد عادوا يفترسون المعارضين ويهتكون الحرمات ويمارسون التعذيب حتى العجز أو الموت، بظنهم أن حماية "العسكر" لهم ستكون سابغة، فهم يعيشون فى رعب وخوف من القصاص الثورى أو المباشر من أهالى الشهداء الذين زادت قناعتهم بأن دماء أبنائهم قد أهدرها "العسكر". ثامنا- المصالح الاقتصادية المرتبطة بالجيش أصبحت هى الأخرى فى فزع من القادم؛ لأنها كانت فى أمان نسبى قبل الانقلاب؛ لأن الإصلاح عبر آليات سياسية ديمقراطية يراعى دائما التعقل فى محاربة الفساد، أما بعد الانقلاب وبعد سقوط هيبة الحديث عن فساد العسكر، فإن أرباب هذه المصالح يتخوفون من العصف بهم، لذا فهم يمثلون ضغطا (للم الأمور) بعدما تيقنوا بعدم قدرة العسكر على إمرار الانقلاب. أخيرا، فإن استلهام الإيمان بصحة الموقف وسلامة المقصد، واستدعاء طاقة الصمود والثبات مازالت هى المحاور التى تدير الصراع، وتتقدم به لانتصار سيعم المصريين بكل شرائحهم، وسيشعر الناس وقتها بعظمة ما يقوم به الثوار، حينئذ سنرى شعبا جديدا.