ما يجري في القدس من محاولة الصهاينة الاستيلاء على بعض ساحات المسجد الأقصى، وفرض التقسيم الزماني والمكاني، ليس تصرفًا فرديًّا أو حدثًا عابرًا، بل هو سياسة رسمية تتبنّاها إسرائيل بشكل مقصود وممنهج وعبر خطوات متدرجة منذ عدة سنوات. هذه السياسة تأسست عليها أحلامهم ودولتهم وصرّحت بها زعاماتهم منذ عقود طويلة، فهذا ثيودور هيرتزل، أبو المشروع الصهيوني، يعلن نيته هدم "الأقصى" بقوله: "إذا حصلنا على القدس وكنت حيًّا وقادرًا على القيام بأي شيء، فسوف أزيل كل شيء ليس مقدسًا لدى اليهود فيها". أما ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء لدولة الاحتلال، فيقول: "لا معنى لإسرائيل من دون القدس، ولا معنى للقدس من دون الهيكل". ويقول مناحيم بيجن: "لقد ذهبتُ إلى لبنان-يقصد غزو لبنان- من أجل إحضار خشب الأرز لبناء الهيكل". ويقول اسحق رابين: "لقد كنت أحلم دومًا أن أكون شريكًا في العودة إلى القدس وإعادة حائط المبكى للسيطرة اليهودية". أما نتنياهو فقد أهدى رئيس الكنيسة اليونانية مجسمًا للقدس من الفضة، أُزيل منه المسجد الأقصى، ووضع بدلاً منه الهيكل المزعوم!. ويظل “حائط البراق” هو الحائط الغربي للمسجد الأقصى المبارك، ويمتد طوله 55 مترًا وارتفاعه نحو 15 مترا، ويقع بجانب باب المغاربة. وحائط البراق هو الموقع الأكثر حساسية من بين المواقع المقدسة في القدسوفلسطين، إنه الموقع أو الشيء المادي الوحيد الذي تجرأت الصهيونية على الادعاء بملكيته، رغم أن المجتمع الدولي، ممثلًا بالأممالمتحدة، وضع سابقًا هذا الأمر قيد البحث والتحقق من قبل لجان متخصصة، وقضت بملكية المسلمين للحائط. وسمي بهذا الاسم لارتباطه بحادث الإسراء والمعراج، حيث ربط الرسول صلى الله عليه وسلم دابته التي نقلته من مكةالمكرمة إلى المسجد الأقصى والتي تسمى “البراق” في هذا الحائط، ومن ثم عرج به إلى السماء. الوعد المشئوم ومع صدور وعد بلفور، تمادى اليهود في تجاوزاتهم، حتى جاء عام 1928م، حين حاولوا أن يضعوا في ذلك الزقاق الضيق مصابيح وخزانة وستائر، في مقدمة للاستيلاء على المكان، ومن ثم التوسع كما هي سياستهم لليوم في احتلال منازل المقدسيين في البلدة القديمة بالسرقة والغدر والخيانة. فتداعى الفلسطينيون والعالم الإسلامي لعقد المؤتمر الإسلامي الأول في القدس العام 1928م، لمناقشة الوضع المتردي في فلسطين. لكن الضعف كان أقوى من الفعل!. في العام 1929م، أصدرت بريطانيا الكتاب الأبيض الذي نصّ على ملكية المسلمين لحائط البراق من قديم ويبقى القديم على قدمه، لكنه أعطى اليهود حق المرور للحائط في كل وقت، والقيام بعباداتهم المخترعة، وحدد ما يحق لليهود جلبه من أدوات. ورفض اليهود في المؤتمر الصهيوني السادس عشر ذلك وأعلنوا عن نيتهم إعادة بناء الهيكل!، وفعلاً قام اليهود بمظاهرات عنيفة وهم يحملون العلم اليهودي الذي وضعوه على حائط البراق وهم يهتفون "الحائط حائطنا". ثورة البراق بعد سلسلة اعتداءات يهودية ومظاهرات عدوانية على المسلمين و"الأقصى"، تفجرت ثورة البراق في 16/8 /1929م، والتي استمرت أسبوعين كاملين وعمّت أرجاء فلسطين، واستشهد فيها 116 من المسلمين وقتل من اليهود 132. وكعادة الغرب الغازي والمحتل، قامت القوات البريطانية بحماية اليهود ومهاجمة المسلمين، وأصدرت مئات أحكام الإعدام بحقهم، بينما لم يصدر حكم الإعدام إلا على يهودي واحد قتل إمام مسجد وعائلته، ثم صدر عليه حكم مخفف بالسجن عدة سنوات، فيما نفذ حكم الإعدام بعدد من الأبطال من تلاميذ الشيخ المجاهد عز الدين القسام، وهم: فؤاد حجازي ومحمد جمجوم وعطا الزير، والذين خلدت ذكرهم القصيدة الشهيرة التي مطلعها: مِن سجن عكا وطلعت جنازة. وحين سقطت القدس بيد اليهود في العام 1967م، قام بعض الضباط المظليين اليهود باقتحام حائط البراق مع حاخام، ورفعوا العلم اليهودي عليه ونفخوا في بوقهم لأول مرة!، بعد أربعة أيام من احتلال القدس، جاءت جرافات اليهود وهدمت حارة المغاربة بالكامل وسوّتها بالأرض، وأزالت ما فيها من منشآت تاريخية تعود لزمن صلاح الدين الأيوبي، تتكون من 34 منزلا و4 مساجد ومدرسة وكثيرٍ من الأوقاف. غطرسة “ترامبية” وتأكيدًا لتهويد القدس، أصبح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أول رئيس أمريكي ما يزال في منصبه يزور حائط البراق (الحائط الغربي) في البلدة القديمة بالقدس، التي وصلها ضمن جولته الخارجية الأولى منذ توليه المنصب. ولم يسمح لأي مسئول إسرائيلي بمرافقة ترامب في الزيارة الخاصة، في خطوة أمريكية لتفادي الاعتراف بشرعية الاحتلال الإسرائيلي للموقع، الذي يقع ضمن حدود القدسالشرقية التي يقرها القانون الدولي عاصمة مستقبلية لدولة فلسطين المأمولة. ورافق ترامب إلى ساحة الجدار صهره جاريد كوشنر، مستشاره لعملية السلام في الشرق الأوسط، الذي ارتدى هو الآخر القلنسوة اليهودية. وممَن زاره الرئيس الأمريكي (بوش) خلال زيارته لمدينة القدس عام 1998م عندما كان حاكمًا لولاية تكساس، ومِن بعده زاره رؤساء آخرون، كما زاره الرئيس الروسي (فلاديمير بوتين) في أبريل 2005م، وقام بابا الفاتيكان أيضًا بزيارته بما يعد إقرارًا علنيًّا لموقف اليهود مِن هذا الحائط!. الحفريات تهدد الأثر ومِن تمادي اليهود أنهم لم يكتفوا بما تمَّ مِن حفرياتٍ وتنقيب في مدينة القدس القديمة، بل خصصوا حائط البراق بالحفر والتنقيب حوله بحثًا عما يدل على وجود هيكلهم عنده، ولم يجدوا ما يدل على ذلك، ولكنهم جعلوا مِن هذا الحفر وسيلة لشق نفق عند الحائط يربط بيْن (ساحة البراق) و(طريق الآلام)، والذي تمَّ شقه ثم افتتاحه في عام 1996م، رغم الاعتراضات العربية والدولية؛ إذ تهدد هذه الحفريات المسجد الأقصى بالانهيار، وقد انهار في 15 فبراير 2004م جزء مِن الطريق المؤدي إلى باب المغاربة، أحد الأبواب الرئيسية للمسجد الأقصى، بسبب عمليات الحفر تحته، وشهد افتتاح هذا النفق، رغم اعتراض الفلسطينيين على افتتاحه، أحداثًا دامية نتيجة تصدي الفلسطينيين لفتح النفق، وتصدي قوات الاحتلال الإسرائيلي لهم، حيث سقط 85 فلسطينيًّا شهيدًا، وأصيب 1500 آخرون؛ بالإضافة إلى مقتل 14 يهوديًّا. ويتخذ اليهود مِن حائط البراق بوابة للاقتحامات المتصاعدة لساحات المسجد الأقصى مِن اليهود المتدينين في حراسة قوات الاحتلال للتجول وإقامة شعائرهم وطقوسهم فيها في استفزازٍ صريحٍ للمسلمين المصلين بالمسجد. وقد افتتحت سلطات الاحتلال مؤخرًا كنيسًا (معبدًا يهوديًّا) جديدًا للصلاة فيه أسفل حائط البراق، والذي استغرق بناؤه 12 عامًا، وأظهرت بعضا من الصور المنشورة ما فيه مِن الغرف الممتلئة بصفوفٍ مِن المقاعد الخشبية. ويسعى اليهود إلى بناء مجمعٍ سياحي وتجاري في الساحة الخارجية لباب المغاربة لتشجيع زيارة المكان، وجلب أنظار يهود العالم إلى الحائط لزيارته على مدار العام.وقد أدخل اليهود بروتوكولًا لزيارة الحائط الغربي لغير اليهود. خطيب الأقصى الأمر الذى دفع خطيب المسجد الأقصى السابق، الشيخ عكرمة صبري، للتنديد بالأمر قائلا لرئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو: إن “حائط البراق ليس محتلا”. وأكد صبري أن “حائط البراق هو جزء من السور الغربي للمسجد الأقصى المبارك، ولا يمكن للمسلمين أن يتنازلوا عنه”. ولفت إلى أن “عصبة الأمم” (المنظمة الأممية التي سبقت الأممالمتحدة)، أقرت في العام 1930 بأن حائط البراق هو وقف إسلامي، وليس لليهود.