لم تكن سفارة الكيان الصهيوني في مصر تجرؤ على الاحتفال في وسط القاهرة على مقربة من ميدان ثورة يناير التي طردتها من سفارتها، وبجوار مقر الجامعة العربية – المفترض أنها لا تعترف بإسرائيل – إلا وهي مطمئنة تمامًا لأن ما بين الاحتلال والسيسي من علاقات سرية يسمح لها بأكثر من ذلك، وأن قائد الانقلاب كالخاتم في أصبعها. فلم يعد سرًا أن السيسي عقد مع الاحتلال اتفاقات سرية ونسق معه في سيناء للحد الذي سمح لهم بالعربدة بطائراتهم في سيناء، بل وإدخال قوات برية خاصة في بعض الأحيان كما أكدوا هم، فضلاً عن التنسيق الاستخباري والعسكري بين جيش الاحتلال وجيش السيسي. وبعدما نضجت هذه الاتفاقات السرية وتهيأت الأجواء للإعلان عن هذه العلاقات بطريقة فاجرة، لم يجد قائد الانقلاب عيبًا في أن يلتقي نتنياهو علنًا بعدما التقاه سرًا عدة مرات وأن يستقبله وهو "فاشخًا" فاه كأنما هما صديقين حميمين. لهذا لم يكن مستغربًا السماح لهم بعقد احتفالاتهم علنًا لأول مرة منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد بقلب القاهرة وفي مكان قريب من رمز الثورة (ميدان التحرير) التي طرد شبابها الصهاينة من مقر سفارتهم، كنوع من الكيد للثوار والثورة التي أظهر السيسي عداءه لها في أكثر من مناسبة وتعهد أنها لن تتكرر مرة أخرى . وفي حين أعلن الصهاينة صراحة عن الاحتفال قبله بيومين لزم الانقلاب الصمت والتعتيم ربما لأسباب أمنية، وإن سربت صحيفته المخابراتية نبأ الاحتفال ونشرت صورة الدعوة للتمهيد وامتصاص صدمة المصريين تدريجيًا، واكتفى الانقلاب بحراسة الفندق وغلق الطرق حوله لحماية الصهاينة وهو مطمئن لعدم احتجاج أحد لأن المعارضين في القبور أو السجون. هذا الخضوع من جانب السيسي عبَّر عنه ضمنًا السفير الصهيوني "ديفيد جوبرين" في كلمته الافتتاحية حين أشاد بتطبيع "القادة" العرب مع إسرائيل (لا الشعوب)، ومدح استيراد السيسي الغاز من إسرائيل. وقال إننا "نلاحظ التغيير في معاملة الدول العربية لإسرائيل، التي لا تعتبر عدوًا بل شريكًا في صياغة واقع جديد وأفضل في المنطقة، واقع يستند إلى الاستقرار والنمو الاقتصادي" بحسب قوله أمام المحتفلين. ولم تخجل السفارة الإسرائيلية من القول إنه "حضر المراسم لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمال وممثلين للحكومة المصرية"، بل ونشرت صور الحفل علنًا، وشدد السفير "جوبرين" على ما أسماه "الشراكة المتينة بين مصر وإسرائيل". ولمزيد من طبخ الأمور بعدما ظهر الغضب الشعبي وانتشرت دعوات عبر مواقع التواصل لتجريس من حضروا من المصريين المطبعين ومقاطعة فندق "ريتز كارلتون"، اضطر نواب الانقلاب للقيام بتمثيلية للتبرؤ من الاحتفال بعدما وصلتهم 100 دعوة من 400 وجهت لمصريين، واضطر "عبد العال" للقول إنهم لن يحضروا. وكانت صحيفة يديعوت أحرونوت تحدثت عن "فيتو رسمي مصري" على الاحتفال الإسرائيلي بسبب المخاوف من ردود أفعال الشعب المصري الرافضة للتطبيع، إلا أنها أكدت أن "تل أبيب لم تقبل هذا التوجه من قبل المصريين ومارست ضغوطًا على القاهرة لإلغاء (الفيتو) المصري على إقامة الحفل". ولم يصدر أي تعقيب من سلطة الانقلاب على هذه الإهانة التي تشير لفرض الاحتلال الاحتفال على سلطة الانقلاب، الخائفة من رد فعل الشارع، فرضًا، ربما لأن إرادة الانقلاب هي إرادة الاحتلال وكلاهما له مصلحة واحدة ضد مصالح الشعب المصري. فقد تحدثت "يديعوت أحرونوت" عن أنه "جرت الأيام الماضية دراما دبلوماسية، وطلب مسئولون مصريون بارزون إلغاء الفعالية بعد إرسال الدعوات للضيوف، كما بعثوا برسالة بنفس المعنى لسفارة إسرائيل، وكان المبرر الرسمي من قبل سلطات السيسي "لأسباب أمنية" ، وخشية من ردود فعل الشارع على احتفال كهذا. ولكن "مكتب رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو تعامل مع القاهرة على عدة مسارات، من بينها القنوات الأمنية، وذلك لإقناع المصريين بأن هذا الأمر ضروري كي تعود العلاقات إلى طبيعتها وإلى ما كانت عليه" كما قالت يديعوت أحرونوت. وأنه بعد تدخل مسئولين بالمؤسسة الأمنية المصرية (مخابرات عباس) تم إلغاء الفيتو الذي تبناه مسئولون بارزون بالقاهرة، وجرى تنظيم حفل الاستقبال كما هو مخطط له الثلاثاء". وظلت السفارة الإسرائيلية بالقاهرة في السابق تحتفل داخل مقرها بمنطقة الجيزة قبل إخلائه عقب هجوم المتظاهرين عليه في ذكرى ثورة يناير، وكان يتم توجيه الدعوة لعدد من سفراء الدول الأوروبية والأفريقية، إلى جانب السفير الأمريكي، وعدد قليل من رجال الأعمال والدبلوماسيين المصريين يجري التكتم على أسمائهم. هل حان تطبيق صفقة القرن؟ السفير عبد الله الأشعل، مساعد وزير الخارجية الأسبق، أستاذ القانون الدولي، اعتبر إعلان تل أبيب عن تنظيم سفارة الاحتلال احتفالات في قاعات فندق "ريتز كارلتون" بالقاهرة بمناسبة ما يسمى "استقلال" إسرائيل، "اختبار للنظام والشعب"، للشعب كي يظهر موقفه مرة أخرى علنًا من التطبيع ، وللنظام لإثبات تواطئه مع الاحتلال وغرقه حتى أذنيه في التنسيق مع الاحتلال. وحدد السفير عبد الله الأشعل أربعة أسباب أو دلالات لسماح السيسي باحتفال الصهاينة بهذه الطريقة، أبرزها أن يكون كل هذا تمهيدا لصفقة القرن، بحيث يذهب القادة العرب إلى القدس حينما يصلها ترامب يوم 15 مايو الجاري، ويزوروا إسرائيل، ويمهدوا الأرض للموافقة على الصفقة التي يرفضها الشعب الفلسطيني، ويزيدوا الضغط على المقاومة وغزة. وشدد على أن اليوم الوطني لإسرائيل هو تذكير بذكرى اغتصاب فلسطين التي تتجدد فيها الآلام والجراح، والاحتفال في مكان عام بهذه الجريمة في القاهرة يستفز المصريين بعد إحباط إسرائيل لثورتهم والتآمر على مياههم "، بحسب قوله. لماذا الاحتفال في ميدان التحرير؟ ويرى الدكتور "الأشعل" أن الإعلان الإسرائيلي عن إقامة حفل بفندق مصري في ميدان التحرير، بذكرى اغتصاب فلسطين (إنشاء دولة إسرائيل)، يعني: (أولاً): أن الأرض متهيئة لتطبيق صفقة القرن وحضور ترامب والزعماء العرب إلى القدس. (ثانيًا): إقامة الحفل بالقاهرة بمثابة "حرب نفسية ضد العرب والفلسطينيين قبل مسيرة العودة الكبرى الجمعة المقبلة بمناسبة اغتصاب فلسطين". لماذا فندق بميدان التحرير؟ (ثالثًا) : تعمد السفارة عقد الاحتفال في فندق ال "ريتز كارلتون" الذي يقع في محيط ميدان التحرير على نيل القاهرة، بمثابة سخرية من ثورة يناير ومن قاموا بها بعدما هاجموا سفارتها من قبل وصعدوا إليها وألقوا أوراقها في الشارع. وعقد الاحتفال في فندق بميدان التحرير معناه القضاء على الثورة ورمز من أهم رموز ثورة يناير، ومثلما تحدوا حق فلسطين في الوجود، يسعون للقضاء على حق المصريين في الثورة والعيش حياة كريمة. فثورة يناير 2011، حاصرت سفارة إسرائيل، وانقلاب يوليو 2013 سمح باحتفال سفارة دولة الاحتلال بذكرى إنشائها على ضفاف النيل في رسالة تحد للثورة والثوار وتأكيدًا على تبعية الانقلاب للصهاينة. (رابعًا): عقد الاحتفال يشكل تحد من السيسي والانقلاب للشعب ويدشن التحالف السيساوي الصهيوني رسميًا وعلنيًا واعتبار السيسي أن "إسرائيل صديق لا عدو"، وتحديه تضحيات الشعب المصري. ومنذ مجيء السفير الإسرائيلي الجديد في مصر "ديفيد جوفرين" قبل نحو عامين، للقاهرة سعى نحو مزيد من التطبيع في العلاقات ، وزار معابد يهودية تقوم القاهرة بإعادة ترميمها من الآثار اليهودية، كما ظهر في عدة مناسبات. ولكن في يناير 2018 الماضي، احتجت السفارة الإسرائيلية على عدم دعوتها لمناسبات مصرية رسمية. وبلغت قوة وسطوة السفير الصهيوني في مصر "دافيد غوفرين" على نظام السيسي، أن تقدم في وقت سابق على الاحتفال، باحتجاج رسمي لحكومة السيسي على عدم دعوة الممثلين الإسرائيليين والبعثات الدبلوماسية للمناسبات الدبلوماسية والإحاطات الإعلامية الرسمية في مصر، بحسب هيئة البث العام الإسرائيلي (كان) حينئذ.