لم يتبق بعد نجاح خطة هجرة أصحابه -صلى الله عليه وسلم- بهذا الشكل الرائع فى ظل تلك الظروف المتحدية شديدة العدوانية، سوى أن يبدأ صلى الله عليه وسلم فى الترتيب لخطة هجرته وإداراتها بأعلى درجة من الحذر والاحتياط، فإذا كانت قريش قد فشلت فشلا ذريعا فى منع هجرة الاتباع، فلا تزال الفرصة سانحة أمامها بالنسبة للقائد، خاصة أن الأمر أصبح بالنسبة لهم الآن أكثر سهولة وتركيزا، فمتابعة شخص واحد واضح ومحدد أسهل بكثير من متابعة عدد من الأفراد منتشرين وغالبا ما قد يكونوا غير معروفين. ولعل من أهم ما يمكن استنتاجه من ملامح تلك الخطة عموما هى أنها قد قامت أساسا على ما يمكن أن نطلق عليه التخطيط بالسيناريو، وهو تخطيط لم يعرف بهذا الاسم إلا حديثا جدا، حيث يعتمد على أن المخطط لا يضع خططه على ظروفه فقط، وإنما لا بد أن يراعى ليس فقط ما يحيطه من ظروف، وإنما عليه أيضا أن يراعى ما سوف يتخذه الطرف الآخر من رد فعل على فعله، وما سوف يقوم هو من فعل تجاه رد هذا الفعل، وهكذا. فى الحقيقة يعتبر التخطيط بالسيناريو منهجا فى التفكير يغيب عن كثيرين، خاصة أولئك الذين يتصورون أنهم يعيشون فى عالم ساكن، وأولئك الذين يعيشون أدوار التدين المغشوش، ولا يعلمون أن مثل ذلك الأسلوب فى التخطيط هو من كمال الأخذ بالأسباب، كما يجب أن يكون على المسلم الحق، وهذا يحتاج إلى جهد ذهنى كبير، فالإدارة بطبيعتها عمل ذهنى، كما تحتاج إلى مهارة عالية ودقة بالغة فى جمع المعلومات واتخاذ القرارات المناسبة فى الوقت المناسب، فالتخطيط بالسيناريو يعنى أنك لديك سيناريوهات بديلة متوقعة، وأنك قد قمت بإعداد العدة لكل سيناريو مسبقا، فإذا حدث أى منها كان هناك متطلبات مواجهته كاملة، ليكون التخطيط فى منتهى المرونة والفعالية. إن فائدة التخطيط سوف تنعدم إذا كان هناك بديلا واحدا تم التحسب له، فإذا لم يحدث كانت العشوائية والتخبط وكأن تخطيطا لم يكن. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم محفوف برحمة الله ورعايته وعنايته المباشرة, وقد صدر له الإذن من قبل بالهجرة وأصحابه من مكة إلى المدينة، ومع ذلك فقد أدار الموضوع بأعلى درجات الاحتراف والأخذ بالأسباب. لقد بدأ صلى الله عليه وسلم يعد العدة مبكرا، فحدد من يرافقه فى السفر واحتفظ بذلك لنفسه ولم يبح لأحد حتى أبى بكر نفسه، الذى سأله أن يأذن له بالهجرة فما كان منه إلا أن قال له: "اصبر لعل الله يجعل لك صاحبا أو رفيقا". ونلاحظ هنا تمام السرية. ثم تأكد من استئجار الدليل الكفء الذى سوف ينتظرهما فى مكان متفق عليه فى الوقت المعلوم، والتأكد التام من أمرين: أولهما: كفاءته العالية بمعرفة دروب الطريق. وثانيهما: أمانته العالية وقدرته على الكتمان، وعلى الرغم من أنه كان مشركا (عبد الله بن أريقط) إلا أن مثل هذا الاختيار يدل على درجة عالية من القدرة على الاستقطاب وحسن الاختيار من جهة، وكذلك على عدم الحرج فى الاستعانة بأهل الخبرة والكفاءة طالما كانوا أمناء حتى وإن كانوا على غير دين الإسلام. ثم كان لا بد من تحديد مسار الهجرة، خاصة فى الأيام الثلاثة الأولى التى سوف يشتد فيها طلب قريش الجنونى لمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وهنا كان السيناريو العبقرى جاهزا، حيث توقع الرسول صلى الله عليه وسلم أن قريش حينما تكتشف أمر هجرته سوف تتجه تلقائيا إلى طريق المدينة شمالا، حيث أصبح معلوما للجميع أنها مقر هجرته بعد أن نجح أصحابه بالفعل فى الهجرة إليها، فكان رد الرسول هو أن يتجه عكس هذا الطريق تماما، نحو الجنوب سالكا الطريق المتجه لليمن، سلك هذا الطريق خمسة أميال نحو مكان معين ومحدد سلفا بعناية فائقة هو غار ثور، ولعله يحتاج إلى وقفة مستقلة توضح عبقرية هذا الاختيار، وتعطيه حقه الذى لم ينله فى معظم كتب السيرة. ثم كان هناك سيناريو آخر هو الأشد صعوبة، وهو ذلك المتعلق بماذا لو تم مراقبة لصيقة للرسول، وكان هذا بالفعل هو المتحقق من قريش، حيث تم تركيز عيونهم بعد الفشل الذريع فى صد هجرة الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك أعد الرسول لذلك سيناريو وهو أن ينام على بن أبى طالب رضى الله عنه وأرضاه فى فراشه، وكأنه هو، حتى إذا نجح فى الخروج من البيت كان ذلك مطمئنا لهم أنه لا يزال فى فراشه، فيرتب أمره ويبتعد عنهم قبل اكتشاف الأمر، وهو ما قد حدث بالفعل. هذا بخلاف إعداد كافة المتطلبات الإدارية والتنظيمية والأدوار المختلفة المطلوبة لإنجاح عملية هجرته صلى الله عليه وسلم، حيث تم إعداد الرواحل من خلال أبى بكر رضى الله عنه، والاتفاق مع الدليل عبد الله بن أبى أريقط مسبقا على أن يأخذ الراحلتين سرا ويسير بهما نحو المكان المتفق عليه، على بعد مسيرة ثلاثة أيام شمال مكة تجاه المدينة، وهى المدة التى قدرها الرسول صلى الله عليه وسلم ليمكث فى غار ثور حتى يهدأ هيجان قريش فى البحث عنه، وهذا سيناريو آخر توقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أن يشتد هيجان قريش بشكل هستيرى وجنونى فى البحث عنه إثر اكتشافهم نجاح خروجه من بين أعينهم، فيفوت عليهم هذه الفرصة بأن يفرغ جل طاقتهم فى الاتجاه الخاطئ، فإذا خمدت طاقتهم، ودب اليأس والإحباط إلى نفوسهم، بدأ هو وصاحبه فى الحركة ملتفا للوصول إلى طريق المدينة، حيث ينتظرهما عبد الله بن أبى أريقط بالراحلتين. وعلى الرغم من أن كتب السيرة روت أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسير على أطراف أصابعه حتى لا يظهر له أثر، إلا أنه زيادة فى التحسب والاحتياط خصص لعامر بن فهيرة مولى أبى بكر مهمة محددة، وهى أن يقوم برعى الغنم على أثرهما فيريحهما عليهما بشكل طبيعى ساعة من العشاء فيسقيهما من لبنها. وفى الوقت نفسه، يؤدى مهمة أخرى خطيرة، وهى تتبع أثر عبد الله بن أبى بكر الذى خصصه الرسول صلى الله عليه وسلم كعين على قريش يرصد كافة تحركاتهم وخططهم وردود أفعالهم طوال اليوم ثم يبيت معهما فى الغار ويطلعهم على كافة التفاصيل والمعلومات الجارية، وفى السحر يتسلل بخفة عائدا إلى مكة دون أن يشعر به أحد وكأنه بائت فيها، وكان اختياره لهذه المهمة أيضا عن دراية باعتباره الأنسب لها، حيث تصفه السيدة عائشة رضى الله عنها قائلة: "وهو غلام شاب ثقف لقن"، أى هو غلام صغير لا يكاد يلفت الأنظار حينما يندس فى وسط متآمرى قريش، وفى الوقت نفسه فهو ذكى وثقف ولقن أى لديه لباقة عالية وسرعة بديهة وحسن تصرف، وقدرة على التقاط المعلومات وجمع ما يدور حوله وتسجيله فى ذهنه بدقة. لم يكن الاختيار لأحد خبط عشواء، بل لكل مهمته التى يجيدها ويحسنها التى تمثل التوظيف الأمثل لطاقاته، ولا يزال للحديث بقية.