تعرضت بالأمس لجائحة نفسية أصابتنى بحزن شديد، وجعلتنى خارج إطار الحياة لساعات، وظننت أن هذه الحالة ستطول معى نظرًا لقسوة مسبباتها، وأننى لن أستطيع كتابة مقالى الأسبوعى الذى بين أيديكم الآن فى موعده، فاعتذرت عن عدم كتابته، حتى أكرمنى الله من الخروج من هذه الحالة بعد ساعات قليلة فاتت على العبد لله كدهر طويل. وعلى قدر ألمى النفسى كانت سعادتى بهذه اللمسات الحانية التى مسحت بعض الهم، والكلمات الندية التى رطبت مساحة من أجواء الفؤاد المكدود. جاءتنى هذه اللمسات والكلمات من أحباب وأصدقاء كنت أتوقع منهم هذا وربما أنتظره منهم، ولكن ما غمرنى هناء وسرورًا أن تأتينى بعض هذه اللمسات والكلمات من أناس لا أذكر أن ثمة لقاء واحدا جمعنا، أو أن محادثة واحدة جرت بيننا، بل إن بعضهم لا أعلم عنه إلا اسمه، وبعضهم حتى لا أذكر اسمه! وشعرت بقيمة هذه النعمة التى منَّ الله على بها، أن جعلنى كاتبًا يقرأ كلامى من أعرفه ومن لا أعرفه، وتصل كلماتى ومشاعرى إلى كثير من الناس، فتمد بينى وبينهم جسورًا، وتفتح لى قلوبًا، وتصنع بينى وبينهم الكثير من التفاهمات والمشاعر، وربما أصابت كلمة منى حاجة ما عند أحدهم فانتفع بها وكان لها أثر صالح فى حياته، فأنال بها أجرًا ودعاءً، وأُرزق معهما حبًّا من حيث لا أدرى ولا أحتسب، فتأتينى ثمرته وقت احتياج، فى موقف كهذا الذى مررت به تأملت فيما مررت به من موقف، وفى هذه النعمة الجليلة التى لو علمها المحرومون منها لقاتلوا أمثالى عليها، فخرجت منها بقناعة وثلاثة دروس ووصية: أما القناعة فهى ما عبر عنه الحطيئة ببيته الرائع: من يفعل الخير لا يعدم جوازيه *** لا يذهب العُرف بين الله والناس أما الدرس الأول فهو أن هناك أناسا نعرف بعضهم ونراهم ونلمس وجودهم بحواسنا، والبعض الآخر منهم ليسوا كذلك، ولكنهم رغم ذلك قد يكونون أقرب ممن سواهم، ومجرد وجود أى من هؤلاء حولك يصنع راحتك، ويلون أيامك بالبهجة والهناء، ويرسم على جدران حياتك خطوطا من السعادة، فلا ضير أن تتحمل غيابهم أحيانًا وعذابات انتظارهم، ما دمت تجدهم حاضرين وبقوة فى مواسم احتياجك. والدرس الثانى أن من قبيل الحق بين المحبين أن يسارع كل منهم لإرضاء الآخر حين غضبه، وعند المراضاة فلا مكان ل(مَن) ولا ل(لماذا)، فقط طمأنة القلب وتهدئة الخاطر وتجديد الحب. أما الدرس الثالث فهو أن الحب لا يرتبط مطلقًا بالجسوم، ولا الأشكال، ولا الصفات، ولا المكان، ولا الزمان، وإنما هو شىء نجده فى القلب دون معرفة الأسباب، ثم نحاول تفسيره بعد ذلك، والاجتهاد فى معرفة أسبابه، وقد لا نجد لها أية منطقية! وأما الوصية التى أوصى بها نفسى وإياكم: أن يحاول كل منا أن يزرع ولو نبتة صغيرة من خير ومعروف فى قلب كل من يعرفه ويلقاه، ويتعهدها بالرعاية والسقاية من حين لآخر، لتطرح هذه النبتة حبًّا فى مواسم الاحتياج، وما أكثرها فى حياتنا! دمتم بحب.