لى أصدقاء يفضلون الموت على مواجهة الجمهور، عن نفسى ما زلت أذكر كيف ارتعشت ركبى وأنا أعتلى المنبر لأول مرة، كنت حول الخامسة عشرة، ولأن الخطيب تغيب فجأة، كان على أحد ما أن ينقذ الموقف، وقد رأى البعض، لا أدرى لماذا، أننى هذا الشخص، هكذا تحولت إلى خطيب، والمضحك أن من بين المصلين أصحاباً سيلعبون معك بعد أن تنفضّ الصلاة، ستلعبون جميعاً وتسددون الكرة إلى حائط المسجد الذى كنت للتو تخطب فيه ! وأذكر صوتى عندما راح منى، وريقى حين جف وأنا أقول "هنا القاهرة"، وأذكر مواقف أخرى يكون فيها المتكلم أمام حشد، حقيقى أو متخيل، أشبه ما يكون بهدف نتعلم فيه التصويب، أما الطلقات فهى النظرة الثابتة والفم الفاغر الذى يحدق فيك مثل فوهة والعقل الذى ينتظر الإقناع والقلب الذى ينبغى أن تؤثر فيه ، الجمهور، بحد ذاته، قطعة سلاح، موجهة لصدرك والبلاغة هى التى تبطل عمل الزناد. الشاهد أن هناك اهتمامات مشتركة بينى وبين الشيخ مظهر شاهين، الرجل استمر خطيباً وأنا جربت، وهو ما زال يكلم الناس من وراء الشاشة، وأنا بدرت الكلمات فى الهواء ولا أعرف أين استقرت، لكننى لا أحاوره لهذه الأسباب، أنا أحاوره، لأضع يدى على تلك اللحظة التى ظهر فيها شاهين، وكأنه إجابة لدعاء أطلقه ميدان التحرير، وفيما كان طافياً على المنصة، كان لقب"خطيب الثورة " شاغراً يبحث عمن يشغله. ومظهر، بدوره، سعيد بهذا اللقب، سعادته بابنه " عمر"، وكلاهما.. اللقب والابن من مواليد الثورة. وقد بدأت فسألته : كيف تحب أن تنادى ؟ الشيخ أم الدكتور مظهر ؟ وهو بيد صغيرة مسح على بنطلونه الجنز، وقال : - الشيخ مظهر، ومظهر بس بين أصدقائى وحبايبى * يعنى كلمة الشيخ أعز بالنسبة لك من الدكتوراة ؟ - طبعاً، دخلت الأزهر لأكون شيخاً، أبى أدخلنى الأزهر لأجل هذا اللقب، لكننى اخترت أن أكمل الدراسات العليا تبحراً فى العلم، وحباً فى البلاغة * الماجستير كان عن البلاغة القرآنية ؟ - بالضبط، لأنى عندما أنهيت الثانوية كانت لدى مشكلة كبيرة، هى أن كل كليات الأزهر متخصصة، وأنا أكره التخصص جداً، أحب أن أعرف شيئاً عن كل شىء. * هل كان أحد، هناك فى محيط القرية بالغربية، تريد أن تتأسى به ؟ - لا، لم تكن هناك قدوة لى، أنا، طول عمرى، يدفعنى الفضول للاكتشاف، يعنى لو فى جرار زراعى أو مكنة مية جنب بيتنا كنت أقعد أحل وأربط فيها، كنت أحب ثمن المواشى مثلاً وفى نفس الوقت أحب أعرف فى السياسة.. وهكذا * كان الأزهر إذن هو اختيار الوالد ؟ - أخبرنى أبى أن أحد أصدقائه رأى له رؤية.. أنه سينجب ولداً يحفظ القرآن ويكون ذا شأن، ولم تكن أمى قد ولدت بعد، فلما وضعتنى أدخلنى أبى الأزهر تيمناً بهذه الرؤية، وأدخل كل إخوتى. * وكان أيه شعورك وأنت لابس لبس الأزهر ؟ - كنا نلبس اللبس العادى فى المعهد الأزهرى بالبلدة، زى المدرسة إللى جمبنا بالضبط ، وكان المعهد مختلطاً فى المرحلة الابتدائية .. "بنات وأولاد". * وما الذى كان يميزك عن بقية الأطفال ؟ - الهدوء. * هل كنت على وعى بالطريق الذى تسلكه، "طريق القرآن" ؟ - كنت أعرف أن طريقى، كأزهرى، سيرتبط بالمساجد، كان والدى، وأنا طالب فى ابتدائى، يأخذنى إلى مسجد الأربعين بجوار بيتنا، بقرية طوخ، نحو الساعة 11 بالليل وهناك أصعد المنبر وأخطب. * تخطب فى الفراغ ؟ - كان أبى هناك وصديق له. * كان والدك هو جمهورك الدائم ؟ - والدى وصديقه الحاج حمدان رحمه الله، المهم كنت على المنبر أقرأ القرآن وهما يستمعان لى فى تشجيع أبوى حميم. * كنت ترتجل ؟ كانت لديك القدرة على ذلك ؟ - كنت أحفظ خطب الجمعة، وأجربها فى أبى . * هل كنت ترى خطباء فى التليفزيون أو ما شابه ؟ ألم يكن حولك أى مثال ؟ - لم يكن لدينا تليفزيون فى هذا الوقت. * هو أنت مواليد كام يا مظهر ؟ - 1974م ، إحنا بنتكلم عن الثمانينيات، جبنا التليفزيون فى بيتنا سنة 1986م * كان عندكم راديو ؟ - الراديو كان عند "ستى"، أم أبويا الله يرحمها، وعلى فكرة الست دى هى صاحبة الفضل علىّ، كانت تنام فى غرفة لوحدها، وبعد أن فطمت أصبحت أنام معها، كان عمرها نحو 80 سنة وكانت باستمرار فاتحة الراديو. * على إذاعة القرآن الكريم ولا البرنامج العام ؟ - القرآن الكريم، فكنت أسمع دائماً برنامج " أنت تسأل والإسلام يجيب " وبرنامج الفتاوى بتاع الأستاذ عزت حرك، كان بيعجبنى آداءه.. ما زلت أذكر تقديمه للحلقة كان يقول: أيها الإخوة المؤمنون، أيتها الأخوات المؤمنات، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ورد إلينا سؤال من المستمع فلان الفلانى إلخ .. كنت أقعد أفكر: هو الراجل ده بيتكلم فين دلوقتي، هو قاعد جوه الراديو إزاى، لم اكن أعرف بالطبع أن هناك استديو وتسجيل..إلخ. كان نفسى أتكلم زيه فى الراديو. * ألم يعن لك سؤال ما ترسله، ليجيب عنه ؟ - لا، ولكن كان حلمى أن أكون مثل عزت حرك، ويسمع الناس صوتى عبر الراديو، هذه العلاقة بالإذاعة كانت صاحبة الفضل فيها "ستى أم السعد " رحمها الله. * هل كانت تحكى لك حواديت ؟ - كتير، وكانت تقعد ترقينى، لدرجة أننى، حالياً ، كثيراً ما أفتقد يدها التى كانت تربت على كل جزء من جسمى بدعاء، ما عندكش فكرة إيد "ستى" وحشانى أد أيه، الله يرحمها استمرت علاقتى بها حميمية إلى أن ماتت وأنا فى تانية جامعة، وكانت وصيتها ألا تدفن إلا إذا حضرت جنازتها. * نفذت الوصية ؟