تناولت فى مقالات سابقة سبب تماسك حركة الإخوان، وهو الربانية، ثم تحدثت عن أبعاد هذه الربانية فى دعوة الإخوان من وجهة نظر مؤسسها الإمام حسن البنا، ثم تحدثت عن كيفية تحقيق هذه الربانية، ثم عن آثار الربانية على الفرد والمجتمع. واليوم أتحدث عن الأمان الذى يمثله وجود الإخوان فى مصر فأقول: إن وجود جماعة الإخوان المسلمين من أهم أسباب الأمان لمصر والعالم العربى، وربما يرى البعض أن فى هذا مبالغة، لكن بالتمعن فى التاريخ والواقع ندرك حقيقة هذا الوصف، وانظر معى إلى التاريخ القريب الذى لم يتجاوز عمره العامين والنصف عام: شارك الإخوان المسلمون فى ثورة يناير، وبمشاركتهم أصبحت الثورة رقما صعبا لا يسهل تجاوزه، ولا كسره، ولولا وجود الإخوان فى الثورة لما استمرت. كثير من الناس يقول: إن الإخوان لم يشاركوا من اليوم الأول، ورغم أن المشاركات كانت فردية من اليوم الأول ثم صارت رسمية وجماعية من جمعة الغضب، فإننى أقول: إن من حسن تقدير الله وجودة تخطيط الإخوان أن لم يشاركوا رسميا وجماعيا من يومها الأول؛ إذ كانت ستحمل على أنها مظاهرات للإخوان "الطامعين" فى السلطة، والكارهين للنظام الحاكم، ومن ثم فستطلق عليهم أيدى الأمن وأجهزته أضعافا مضاعفة، وسيلقى النظام دعما من الخارج، والداخل أيضا، فكان من حسن توفيق الله لهم أن لم يتصدروا المشهد فى بدايته؛ حتى تصير الثورة شعبية وطنية حقيقية! لو لم يقدِّم الإخوان المسلمون مرشحا للرئاسة لصرنا أضحوكة التاريخ ومسخرة الأمم؛ حيث كان النظام السابق سيعود مرة أخرى، فنكون أمة ثارت على نظام وأعادته للحكم مرة أخرى، ولا يقال هنا: كان من الممكن أن ينجح أحد المرشحين الآخرين، والجواب أنه لو نجح أحدهم لما استطاع أن يسير بالدولة -بعصبته وقاعدته- بعيدا عن النظام المخلوع شيئا فشيئا. ورغم أن الوقت لم يكن مناسبا أن يتصدر الإخوان فى الرئاسة، فإنهم اضطروا لذلك -بعد أن أعلنوا عدم الترشح– حين تغيرت الظروف، وكشف النظام السابق عن وجهه القبيح وأعلن رغبته فى العودة على أشلاء الدماء والشهداء بترشيحه لعمر سليمان وأحمد شفيق، وهذا الاضطرار نجنى الآن مشكلاته التى تناسب حجم الاضطرار على المستويات جميعا. مثَّل وجود رئيس من الإخوان صمام أمان للرئاسة فى مصر، وللتحول المنشود للبلد كله والمنطقة، فلو كان الرئيس من غير الإخوان لتمت "جرجرته" خارج قصر الاتحادية، وإهانة مصر أمام العالم والتاريخ؛ إذ لا يملك أحد من غير الإخوان ما للإخوان من تنظيم وقوة على الحشد والتجمع، ورغبة فى التضحية والفداء. وإلا فماذا كانت تعنى ثورة 25 يناير...بدون الإخوان؟! إنها تعنى بكل بساطة: الفريق أحمد شفيق رئيسا مصر، والبرادعى رئيسا لوزراء مصر، وعبد المجيد محمود نائبا عاما لمصر، وتهانى الجبالى فى محكمة مصر الدستورية، واستمرار الحكم العسكرى، واستمرار دستور 1971م، واستيراد القمح الأمريكى وإذلال الفلاح المصرى، واستمرار تصدير الغاز لإسرائيل، واستمرار حصار غزة وغلق المعابر، واستمرار التوريث السياسى والإعلامى والقضائى؛ فضلا عن فتنة فى مصر وهرج ومرج، ونفى واعتقال، وشنق وإعدام، وقتل وتقتيل أضعاف ما رأيناه الفترة الماضية ... إلخ. ولهذا قالت صحيفة (النيويورك تايمز) الأمريكية إبان ثورة الخامس والعشرين من يناير: إن الأنظمة العربية عرفت قدر جماعة الإخوان المسلمين، ومدى انتشارها الفعلى فى المنطقة، بعد الاحتجاجات المنتشرة حاليًّا فى أنحاء العالم العربى، المطالبة بالإصلاح والتغيير، التى تشارك فيها الجماعة على نطاق واسع. وأشارت إلى أن الأنظمة التى ظلت عقودًا تتجاهل وجود الإخوان المسلمين القوى فى الشارع؛ جاءت الآن لتطالبهم بالحوار، فى محاولة لإنقاذ الأوضاع... المتدهورة فى المنطقة؛ باعتبارهم صمام أمن المنطقة العربية. وأضافت أن الملك عبد الله الثانى ملك الأردن اضطر للقاء ممثلين عن جماعة الإخوان المسلمين هناك، بعد الاحتجاجات الواسعة التى قامت بها الجماعة وعدد من أحزاب المعارضة للمطالبة بالإصلاح والتغيير قبل أيام من دعوة اللواء عمر سليمان نائب الرئيس المصرى للإخوان المسلمين فى مصر؛ للمشاركة فى جلسات الحوار الوطنى للخروج من الأزمة التى تمر بها البلاد حاليًّا. هذا هو التاريخ القريب فقط، فماذا عن التاريخ قبل القريب، والتاريخ البعيد؟ هذا هو موضوع المقال القادم بإذن الله.