يُخطئ من يظن أن ثورة الخامس والعشرين من يناير قامت فقط من أجل تغيير نظام أو إسقاطه، أو تغيير حكومة، أو من أجل تحسين الأحوال السياسية والاقتصادية والاجتماعية فحسب، إن ثورة الخامس والعشرين من يناير من وجهة نظرى هى إذن إلهى بتغيير حضارى كبير يغير وجه المنطقة والعالم مركزه مصر، رغم عدم أسبقيتها بالثورة.. هذا التغيير الحضارى الكبير مستمد هوية هذه الأمة وحضارتها الإسلامية المجيدة بعد أن ظلت لقرنين من الزمان تدور فى فلك التبعية للشرق تارة وللغرب تارة أخرى. مرت مصر خلال قرنين أو أكثر من الزمان بمشروعين نهضويين.. المشروع الأول هو مشروع محمد على الذى تولى حكم مصر عام 1805، وهو بحق بانى مصر الحديثة، واستطاع أن يُحدث نهضة فى مجالات عدة، وحقق طفرة كبيرة فى بنية البلاد الأساسية، وأرسل البعثات إلى أوروبا، لكى يخدم مشروعه الذى جعل الغرب قبلة له.. ولكنه كرس كل شىء فى يده فكان هو الزارع الوحيد والصانع الوحيد والتاجر الوحيد، وكرس الحكم ومقدرات البلاد له ولأسرته من بعده، وأهمل تطوير الإنسان، واستبد رغم البعثات التى تحدثنا عنها من قبل، ولكنها فى النهاية كانت تخدم أغراضه، فلم يستطع هذا المشروع أن يصمد أمام العواصف وتعرض للانهيار عام 1840 بعد مؤتمر لندن وتكالب الغرب عليه، وانتهى بنهاية محمد على. المشروع الثانى هو مشروع جمال عبد الناصر فى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى، فاستطاع عبد الناصر أن يحقق بعض النهوض فى الزراعة بالإصلاح الزراعى والصناعة بالمصانع الحربية ومصانع حلوان، ولكنه أمم مقدرات البلاد وجعلها فى يد الدولة ممثلة فى شخصه، وكرس للقهر والاستبداد والديكتاتورية، وأهمل بناء الإنسان، ومارس كل أنواع القهر والظلم بحقه، فلم يستطع المشروع أن يصمد وانهار بالهزيمة المريرة عام 1967، فانهار المشروع وانهار عبد الناصر من بعده. هذان المشروعان حدثا بتغيير فوقى، سواء محمد على أو جمال عبد الناصر، ولم يكن التغيير نابعا من الشعب أو نتاج بناء الإنسان، فكان مصيرهما الانهيار والنهاية بنهاية صاحبيهما. المشروع الحضارى الذى نتطلع إليه الآن نابع من تنمية الإنسان وجعله هو محور التنمية، وكذلك تنمية المجتمع والتمكين المجتمعى الذى سيكون بحول الله حائط صد أمام الهزات والضربات، وفى هذا المعنى يتحدث أحد المصلحين العظام فى القرن العشرين وهو الإمام (حسن البنا) رحمه الله فيقول فى رسالة "هل نحن قوم عمليون؟": (ولكن الأمم المجاهدة التى تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير وتريد أن تبنى حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وتطالب بحق مسلوب وعز مغصوب فى حاجة إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.. إنها فى مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائها على خُلق الرجولة الصحيحة حتى يصمدوا لما يقف فى طريقهم من عقبات، ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب... إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها، وإنما تاريخ الأمم جميعا هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين الأقوياء النفوس والإرادات.. وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تُقاس بخصوبتها فى إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإنى أعتقد والتاريخ يؤيدنى أن الرجل الواحد فى وسعه أن يبنى أمة إن صحت رجولته، وفى وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء) رحم الله الإمام البنا. هذا هو الانسان الذى نريده، وهذا هو الإنسان الذى سيحمل هذا المشروع، والذى يبنى ويشيد، وهذا هو الجديد، وهذا هو البنيان الذى لن يهدم بحول الله وقوته، على كتف هذا الإنسان سيتغير وجه المنطقة والعالم، والله من وراء القصد وهو يهدى السبيل.