هو أحد قلائل القادة السياسيين والاقتصاديين فى أسيا الذين تركوا بصمة مميزة.. استطاع تغيير وجه ماليزيا، وتمكن من أن يجعلها فى مصاف الدول الاقتصادية المتقدمة.. إنه مهاتير محمد رابع رئيس وزراء لماليزيا فى الفترة من 1981 إلى 2003، وصانع نهضتها وأحد أبرز الخبراء الاقتصاديين فى العالم. ولد مهاتير محمد عام 1925م بولاية كيداه بماليزيا، وتلقى دراسته بكلية السلطان عبد الحميد، ثم درس الطب فى سنغافورة، وقام بدراسة الشئون الدولية بجامعة هارفارد بالولايات المتحدةالأمريكية عام 1967م. افتتح بعد تخرجه عيادة خاصة، وكان يقوم بعلاج الفقراء بها مجانًا، كما عمل ضابطا طبيبا بسلاح الخدمات الطبية، وعُرف باهتماماته السياسية، فانضم لتنظيم "اتحاد الملايو" حيث تدرج فيه حتى أصبح عضو المجلس الأعلى لتنظيم اتحاد الملايو الوطنى. وبدأ ظهوره فى الحياة السياسية الماليزية عام 1970م، عندما ألف كتابًا بعنوان "معضلة الملايو"، انتقد فيه بشدة شعب الملايو واتهمه بالكسل، والرضا بأن تظل بلاده دولة زراعية متخلفة دون محاولة تطويرها، وقرر الحزب الحاكم منع الكتاب من التداول نظرًا للآراء العنيفة التى تضمنها. غير أن مهاتير سرعان ما أقنع قادة الحزب بقدراته، وصعد نجمه فى الحياة السياسية بسرعة، حتى تولى رئاسة وزراء بلاده عام 1981م، وأتيحت له الفرصة كاملة ليحوِّل أفكاره إلى واقع عملى؛ ففى 16 يوليو 1981، أصبح مهاتير محمد رئيسًا لوزراء ماليزيا عندما استقال حسين أون من منصبه لأسباب صحية، وكان أول رئيس وزراء فى البلاد ينتمى لأسرة فقيرة، حيث كان رؤساء الوزارات الثلاثة الأول أعضاء فى الأسرة الملكية أو من عائلات النخبة. وقضى مهاتير 22 عاما فى المنصب، وتقاعد فى 31 أكتوبر 2003، مما جعل فترته واحدة من أطول فترات الحكم فى أسيا. وعند تقاعده، حصل مهاتير على لقب "تون"، وهو أعلى تكريم لشخصية مدنية فى ماليزيا. ولم يكن مهاتير مجرد رجل سياسة، بل كان -أيضًا- مفكرًا له كتب ومؤلفات، وكان صاحب رؤية لما ينبغى أن تكون عليه بلاده، حيث استفاد من كل ما حققته ماليزيا منذ الاستقلال من نجاحات واستثمرها وجعلها قاعدة لانطلاقته، وبدأ يبحث فى تجارب الدول الأخرى، خاصة الأسيوية، حتى وجد بغيته فى التجربة اليابانية. وتسلّم مهاتير محمد السلطة بعد مرور أكثر من عقدين على الاستقلال، وفى هذه الفترة، قطعت البلاد خطوات مهمة فى طريق الإصلاح والبناء؛ مما وفر له قاعدة تصلح للارتكاز عليها، وباختياره اليابان نموذجا تنمويا تكشَّف أمامه الطريق نحو المستقبل، وجاء دوره المفصلى فى تاريخ ماليزيا، وهو كيفية إدارته الدولة، والقفز بها إلى مصاف الدول الصناعية الكبرى. ولعل أبرز ما يميز "المرحلة المهاتيرية" تلك الطفرة الاقتصادية اللافتة، حيث أصبحت فيها ماليزيا دولة صناعية متقدمة، يسهم قطاعا الصناعة والخدمات فيها بنحو 90% من الناتج المحلى الإجمالى، وفى عهده بلغت نسبة صادراتها من السلع المصنعة 85% من إجمالى صادراتها، وأنتجت 80% من السيارات التى تسير فى طرقاتها، وأصبحت من أنجح البلدان فى جنوب أسيا، بل فى العالم الإسلامى بأكمله، حيث انطلق فى عدة محاور فى وقت واحد، لكنه قام بالتركيز على ثلاثة محاور بصفة خاصة، هى: محور التعليم، ويوازيه محور التصنيع، ويأتى فى خدمتهما المحور الاجتماعى. وكان اهتمامه بالتعليم منذ مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية؛ فجعل هذه المرحلة جزءًا من النظام الاتحادى للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وتلتزم بمنهج تعليمى مقرر من الوزارة، وإلى جانب ذلك كان إنشاء الكثير من معاهد التدريب المهنى، التى تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل فى مجالات الهندسة الميكانيكية والكهربائية وتقنية البلاستيك. كما واكب الاهتمام بالتعليم دخول ماليزيا مرحلة التصنيع، الأسمنت والحديد والصلب، بل تصنيع السيارة الماليزية الوطنية (بريتون)، ثم التوسع فى صناعة النسيج، وصناعة الإلكترونيات التى صارت تسهم بثلثى القيمة المضافة للقطاع الصناعى، وتستوعب 40% من العمالة. وبالتوازى مع الاهتمام بالتعليم، فقد دخلت ماليزيا فى التسعينيات مرحلة صناعية مهمة، وذلك حين شجعت الصناعات ذات التقنية العالية وأولتها عناية خاصة، وقد كان ذلك بعد أن توافر لديها جيل جديد من العمالة الماهرة المتعلمة والمدربة بأحدث الوسائل، فأصبح فى مقدورها إثبات وجودها، بل المنافسة على الصدارة. ومن أبلغ ما يبين نجاح الأداء الاقتصادى لماليزيا فى الفترة المهاتيرية، ذلك التوسع الذى حدث فى استثمارات القطاع الصناعى، حيث أنشئ أكثر من 15 ألف مشروع صناعى، بإجمالى رأس مال وصل إلى 220 مليار دولار، وقد شكلت المشروعات الأجنبية حوالى 54% منها، بما يوضح مدى الاطمئنان الذى يحمله المستثمر الأجنبى لماليزيا من ناحية الأمان، وبالتأكيد ضمان الربحية العالية، بينما مثلت المشروعات المحلية 46% من هذه المشروعات. الجميل أن مهاتير كان دائمًا وفى كل المحافل الدولية يعتز بإسلامه، ويرجع نجاحه إلى تطبيقه تعاليم الإسلام، وأنه ينطلق نحو النجاح بفهم عميق لجوهر الدين الإسلامى الذى يعلى من قيمة العلم والتقدم، حيث كان يقول: "إن ماليزيا واثقة بأن الأمة الإسلامية يمكنها أن تكون أقوى قوة فى العالم إذا توحدت، وأحسنت استخدام ثرواتها ومصادرها المختلفة". وأوضح أن على هذه الأمة أن تنشط فى تحصيل العلوم وتقتحم مجال تكنولوجيا المعلومات حتى تستطيع أن تنافس تقدم الغرب فى هذا المجال الحيوى والمهم فى هذا العصر. وفى 11 أكتوبر 2003، وبعد أن شعر مهاتير بأنه قد انتهى من أداء رسالته أعلن استقالته من جميع مناصبه الحزبية فى قرار تاريخى.