الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: فعندما نجتمع مع أقاربنا ومعارفنا فى مناسبة من المناسبات فإننا نجد فيهم الطفل الصغير، والشيخ الكبير، ونجد كذلك الفتى والشاب والكهل.. فإذا ما تقابلنا فى مناسبة أخرى بعد عدة سنوات فسنجد أن الطفل قد صار فتى، والفتى قد صار شابًا، والفتاة تزوجت وأنجبت، وأن هناك من كبار السن من انحنى ظهره، ومن كلَّ بصره، ومن لا يستطيع المشى إلا متكئًا على عصاه، ولا نُفاجأ إلا إذا ما أُخبرنا بموت أحد هؤلاء الشيوخ.... فأى دلالة يحملها يا تُرى هذا المشهد؟! ألا يدل ذلك على أن هناك حركة نمو تحدث للناس جميعًا؟! وأن الكل مستسلم لها لا يمكنه إيقافها، أو تعطيل مسيرتها؟! وأن هذه الحركة تتوازى مع حركة الزمن وتعاقب الليل والنهار؟.. إن كل البشر يتحرك للأمام مع حركة الليل والنهار.. ولكن إلى أين يتحرك؟!! إلى الموت!! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185]. فجميع الخلق فى شتى بقاع الأرض يتحرك نحو راية واحدة، ويقطعون إليها المسافات بمرور الزمن، فكلما مرت دقيقة اقتربوا من الراية، سواء كانوا منتبهين لذلك أو غافلين، ناسين أو متذكرين، مقتنعين أو معترضين. هذه الحقيقة لا تحتاج إلى كبير عناء لإثباتها، فيكفيك أن تتأكد من ذلك إذا ما بحثت عن صورك الفوتوغرافية منذ الولادة وحتى قراءة هذه الكلمات، وأن ترتب هذه الصور بطريقة تصاعدية فى العمر؛ فستجد أنك تتغير وتنمو وتكبر، فإذا ما تخيلت نفسك بعد ذلك ورسمت صورة لهيئتك بعد عشرين سنة أو أكثر. فستصل إلى الحقيقة التى تعرفها جيدًا: إن الموت نهاية كل حى. إن رحلة الحياة ماضية فى كل لحظة. ماضية تتحرك للأمام وأنا أكتب هذه الكلمات، ماضية وأنت تقرؤها.. فالزمن يمر، والمسافة تقصر، والموت يقترب. ولكن هل الموت هو نهاية الرحلة أم أنه الراية التى نراها ولا نرى ما بعدها؟! إن الموت هو نهاية رحلة الحياة على وجه الأرض، ومن بعده يمر المرء بأحداث عظيمة تنتهى بلقاء الله عز وجل، فيحاسبه على ما فعل فى رحلة الحياة، فإن كان خيرًا فسيفوز بموعود الله وجائزته التى وعد بها الطائعين، وإن كان شرًّا فسيلقى جزاءه الأليم "يا عبادى، إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه" رواه مسلم. فحقيقة رحلة الحياة أنها رحلة إلى الله: من عنده بدأت وإليه تنتهى: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] إنها رحلة الرجوع إليه سبحانه: {قلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِى وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [السجدة: 11] رحلة الرجوع والحساب: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} [الجاثية: 15]. هل لك أيها الإنسان أن ترفض السير والعودة إلى الله؟!.. ولكن كيف؟!! ماذا ستفعل؟! هل ستلجأ لكون آخر؟ {يَقُولُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ(10) كَلَّا لَا وَزَرَ(11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ(12) يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ(13) } [القيامة: 10 - 13]. بداية الرحلة: تبدأ رحلة السير والرجوع إلى الله فى الحقيقة عند البلوغ وبدء سن التكليف وتستمر حتى الموت، ولئن كانت مسافات الرحلة تُقدر بالزمن فإن ما يحملنا فيها هى أجسامنا فالجسد يعد بمثابة الدابة أو المركبة التى نستقلها لكى نصل إلى نهاية الرحلة فى الدنيا. لنتخيل -أخى- هذه الرحلة وكأنها تمر بطريق يركب فيه كل فرد على دابة. ويسير الجميع فى اتجاه واحد نحو الهدف.. الموت! لو تخيلنا هذا المشهد وتعمقنا فيه، وقمنا بإسقاطه على الواقع فسنرى بعين الخيال مشاهد كثيرة: سنرى مشهدًا مألوفًا ومتكررًا: وهو اهتمام الكثير بدوابهم على حساب أنفسهم وقلوبهم التى تستقل تلك الدواب.. سنجدهم يبالغون فى العناية بدوابهم: بطعامها وشرابها ونظافتها بصورة مبالغ فيها، لدرجة أنهم يهملون أنفسهم ولا يؤدون ما عليها من أعمال طالبهم الله عز وجل بها، وسيسألهم عنها عند رجوعهم إليه. وسنرى مشهدًا مثيرًا يتمثل فى انبهار غالبية السائرين فى رحلة الحياة بالزخارف والزينات التى تملأ الطريق، والتوجه الدائم نحوها، والانشغال بها عن كل ما سواها. ومن المتوقع أن نشاهد تنافسًا يؤدى إلى الخصومة والتدابر بين بعض السائرين، بسبب رغبة البعض فى الاستحواذ على جزء من الطريق والسيطرة عليه.. مع أن الجميع يسير فيه، وسيتركه شاء أم أبى. ومما سنراه كذلك نار الحسد والغيرة تأكل قلوب بعض السائرين كلما ظهر شىء جديد على دواب أقرانهم؛ مع أن الحقيقة تهتف كل يوم بأن الكل سيترك دابته فور الوصول للراية.. الموت! مشاهد كثيرة، لك أخى القارئ أن تطلق العنان لفكرك فيها وأن تسقطها على الواقع الذى نحياه.. إنها رحلة حقيقية، فنحن لم نوجد فى الدنيا لكى نأكل أو نشرب أو نلهو، بل للقيام بمهمة محددة وهى عبادة الله عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] لم نُخلق بلا هدف {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ(115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)} [المؤمنون: 115، 116] هذه الرحلة قائمة ومستمرة بتعاقب الليل والنهار؛ لذلك فإن الواجب يحتم علينا أن يكون جل اهتمامنا بتنفيذ ما طلبه منا ربنا؛ حتى نفوز بجائزته وموعوده، وإن لم نفعل فعقبة السوء تنتظرنا "كل الناس يغدو فبائع نفسه معتقها أو موبقها" رواه مسلم. فإن قلت: وكيف أنجح فى هذه الرحلة؟ كيف أسير إلى الله بما يرضيه؟ جاءك الجواب بأنه سبحانه لم يترك عباده فى الأرض دون دليل يهديهم إليه {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاى فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى} [طه: 123]. إنه القرآن دليلنا فى رحلة الحياة إلى بلوغ رضا الله وجنته {يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 16]. ولننتبه أن السنة صنو القرآن، شارحة له مبينة لما أجمل فيه "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى أبدا: كتاب الله، وسنتى" [رواه الحاكم]. مشاهد من القرآن: القارئ المبتدئ للقرآن يجده يفيض فى بيان طبيعة الرحلة ومآلاتها، وخطورة الانشغال بالدنيا وزخارفها، وأنها معبر وجسر نسير عليه حتى راية.. الموت {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف: 7]. ويحذر من الغفلة والانشغال والتكذيب فالرحلة ماضية والنهاية حتمية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر: 5]. ولقد قص علينا القرآن أحوال أُناس انتبهوا لهذه الحقيقة ولكن بعد نهايتها {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة: 12]. ولكن هل نفعهم هذا الانتباه والندم؟ {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14]. وفى المقابل يخبرنا القرآن بحال أناس عقلوا عن الله مواعظه، وأدركوا حقيقة الدنيا وطبيعتها، ورأوا الركب يسير فشمروا عن سواعدهم واجتهدوا فى تنفيذ مراد الله واجتناب نواهيه، فماذا كان حالهم عند الموت؟! {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِى أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)} [فصلت: 30 - 32].