لقد مر الخطاب الدعوى المعاصر بمراحل كثيرة تطور فيها، وانتقل من بيئات تقليدية، إلى بيئات جديدة بفعل عوامل كثيرة، ومع هذا التطور والانتقال بدت للمتأمل والفاحص مجموعة جيدة من المصادر الأساسية التى يجب أن يفحصها الدعاة المعاصرون، ويدرسوها، ويستخلصوا نتائجها، ويتمسكوا بقيمها، وفيما يلى محاولة لاستجماع طاقة هذه المصادر تركيزها: أولا- مفهوم التوحيد الإسلامى أعلى مصادر صناعة الأمل يتجلى الله سبحانه بما هو المركز الأعلى فى الذكر الحكيم حاميا وحارسا وحافظا، ورازقا ومجيبا وقاهرا وجبارا، وهذه المحددات جميعا تمثل النقطة المحورية الأساسية التى ينبغى للدعاة المعاصرين أن يتمسكوا بها، ويديموا تصديرها للجماهير فى مسيرة دعم ثقافة الأمل، وترسيخ أبعادها على أرض الواقع من بعد تثبيتها فى النفوس، وهو المحدد الذى حكم ظهور مصنفات أسماء الله تعالى جلبا لليقين الباعث على التعلق الإيجابى بالمستقبل. لقد دأب القرآن الكريم على الإلحاح على فكرة امتلاك الله تعالى للمستقبل، وأنه وحده سبحانه المهيمن والمتصرف فيه، وهى النقطة التى تظهر هنا فتدعم الأصل القائل بولادة الأمل من رحم الإيمان بالله تعالى. يقول تعالى: ﴿إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [سورة الأعراف: 128] ويقول سبحانه: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا﴾ [سورة مريم: 63]. إن المصدر التوحيدى والاعتقادى يعلم الدعاة المعاصرين؛ ويمد الخطاب الدعوى المعاصر بالحقيقة الكبرى التى تقرر أن الأمل يولد فى السماء أولا. ومن هنا فإن أول مصدر مؤسس لثقافة الأمل، وأعلاه فى ميزان تقدير الوزن النسبى لمنظومة صناعة الأمل كان فى تمسك الدعاة بالإيمان، وتربية الجماهير الكثيرة على قيمة المصدر، وما ينتج عنه من أفكار وقيم. ثانيا- القرآن الكريم مصدر مفجر لطاقات الأمل إن فحص القرآن الكريم يقود إلى الإيمان الجازم بتوجيهه ودعمه وتأسيسه لثقافة الأمل، والتعلق بتغير العالم تغيرا إيجابيا، صحيح أن كلمة الأمل لم ترد صريحة إلا فى موضعين هما: ﴿ذَرْهُمْ يَأكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ﴾ [سورة الحجر: 3] ﴿وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً﴾ [سورة الكهف: 46] والآيتان مكيتان بما يجعل مفهوم الأمل السلبى والإيجابى جزءا من منظومة الاعتقاد بحكم زمنية التنزيل. وهذه أول نقطة تأسيسية مفاهيمية تشتبك مع الاستبعاد لمفهوم مركزية المتعة المادية والرغبة الجسدية مفصولة عن مقام الإيمان، وتشتبك مع الاستبقاء لمفهوم مركزية الأمل الإيجابى فى تفضيل الآخرة وهيمنتها على حركة الدنيا، ومع ذلك ففحص القرآن الكريم يفضى إلى دعم صناعة الأمل فى الخطاب الدعوى المعاصر على امتداد مسارات كثيرة، يمكن الإشارة إلى أهمها فيما يلى: 1- داوم الانتصار للحق فى الخطاب القرآنى، والتعلق بالمستقبل النقى الطاهر، ومراجعة القصص القرآنى حاكم فى هذا السياق. 2- الإلحاح على خيرية المستقبل فى ظل الإيمان، والتعلق بمحدداته تكاد تكون سمة فى الخطاب القرآنى، يستهدف الربط على قلوب الجماعة المؤمنة فى كل زمان وفى كل مكان يقول تعالى: ﴿سَيَغْلِبُونَ﴾ [سورة الروم: 3] وهذا الخطاب فاش فى الذكر الحكيم يطمئن، ويبعث على التفاؤل. 3- إلحاح القرآن الكريم على أن السنة الكونية قاضية بانتصار المستقبل بما يعنى الاستمساك بصناعة الأمل، يقول تعالى: ﴿كَتَبَ اللهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ [سورة المجادلة: 31]، ويقول تعالى: ﴿وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ﴾ [سورة الصافات: 173]. 4- تحذير القرآن الكريم من حقول اليأس والقنوط والتراجع والإحباط، وربطه بالمبدأ والأصل الاعتقادى، وهو محدد مهم داعم لثقافة الأمل، يقول تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ [سورة يوسف الحجر: 56]. ثالثا- السنة النبوية الشريفة مصدر داعم لصناعة الأمل ومن جانب آخر تدعم نصوص السنة القولية قضية الأمل فى التغيير الإيجابى للعالم، وقد وردت اللفظة بمشتقات كثيرة فى مدونات حفظ السنة ترسخ هذا الخلق فى حياة المسلمين، ولعل النص التأسيسى فى هذا السياق هو قوله صلى الله عليه وسلم: ((فأبشروا وأمّلوا ما يسركم))، وهو حديث صحيح أخرجه البخارى، ومسلم والترمذى وابن ماجه. رابعا- السيرة النبوية مصدر أصيل فى ترسيخ ثقافة الأمل ومن جانب آخر فإن السيرة النبوية تعطينا تأصيلا وتأسيسا لثقافة الأمل يلزم الدعاة المعاصرون تأمله والتمسك به وتربية الجماهير عليه، ولن يعدم الخطاب الدعوى المعاصر الأمثلة على دعم الأمل فى نفوس أبناء الأمة، وإليك بعض هذه الأمثلة: 1- رفض عروض قريش على النبى صلى الله عليه وسلم من أجل تنازله عن الدعوة إلى الدين الجديد، الإسلام العظيم، وتعلق قلب النبى صلى الله عليه وسلم بأعز محبوب فى المستقبل وهو ظهور الإسلام، وانتشاره. 2- رد سراقة بن مالك فى تعقبه لرحلة النبى صلى الله عليه وسلم مهاجرا بما زرعه من الأمل فى نفسه، ليتحقق بعد نحو عقد ونصف من الزمان. 3- خلق حالة إيجابية تجاه المستقبل تجلى فى كثير من الوعود النبوية الكريمة فى فتوح المستقبل، حيث بشر صلى الله عليه وسلم بفتح مصر، وخيبر والقسطنطينية وغيرها، وتحقق ذلك جميعا. خامسا- القدرة الذاتية على التجديد والإصلاح مصدر أصيل لصناعة الأمل إن المنظرين الفكريين الإسلاميين يقررون أن من سمات الفكرة الإسلامية قابليتها الذاتية والداخلية على تجديد شبابها، وهذه القابلية الذاتية الداخلية للتجديد واحد من أهم مصادر صناعة الأمل فى النفوس، ينبغى للدعاة تمثلها وهضمها، والتشبث بها؛ لأن تعنى أن أى تراجع أو انهيار حضارى سيزول بمحددات ذاتية وداخلية تملك تطبيقها الفكرة الإسلامية نفسها، وهو ما يعنى امتلاك القوة الإيجابية الدافعة نحو تغيير الواقع والتعلق بمستقبل مغاير ومشرق. سادسا- رصيد الخبرات والتجارب الإنسانية مصدر من مصادر صناعة الأمل إن التاريخ العريق الممتد للتطبيقات الإسلامية على الأرض من خلال تجارب علمائها وزعمائها وساساتها وقياداتها ومفكريها ومصلحيها وخبراتهم العميقة تمثل مصدرا جبارا يدعم ثقافة الأمل يلزم تأمله فى دعم ثقافة الدعاة فى هذا الإطار، وهذه الخبرات يمكن تقسيمها إلى نوعين هما: 1- خبرات تاريخية محكومة بطبيعة هيمنة الإسلام وتوجيهه للحياة بدءا بخلافة أبى بكر رضى الله عنه الذى افتتح حياته بأحداث تنتصر لثقافة الأمل فى مستقبل زاهر بقراره محاربة المرتدين، ثقة فى الله تعالى، وإيمانا به، وهى المنهجية التى حكمت مسيرة عمر رضى الله عنه فى قراراته السياسية والاجتماعية. 2- خبرات معاصرة ظهرت فى مناخ مغاير تشوهت فيه المؤسسات، وران على الإدارة دخان أسود وارد من ثقافات وأنظمة معرفية مخاصمة للإسلام، وهذه الخبرات تعطى المثال الفريد على قوة مقاومة الفكرة الإسلامية للهجوم، والتشويه من جانب. والحق يفرض أن أقرر أنى أكتب هذه المقالة بسبب من عدد كبير من الدعاة المعاصرين الذى يمتلكون خبرات وتجارب واسعة مفعمة بالأمل، وتكاد تملأ نفوسنا وصدورنا ببعض من الهواء النقى بسبب من مواقفه الإيجابية المسكونة بالأمل فى المستقبل المشرق. محددات وخصائص الأمل فى الخطاب الدعوى المعاصر أولا- الأمل مفردة أصيلة كاشفة عن الإيمان العميق بالله تعالى. ثانيا- الأمل مفردة أصيلة حاكمة فى مسيرة الحركة العملية للعصر النبوى النقى تمهيدا لبناء الدولة، وتأسيسا لها، وتحصينا لمستقبلها. ثالثا- الأمل خلق إستراتيجى ثابت قادر على ترشيد حركة المجتمعات الإسلامية، بسبب من ذاتية التجديد والإصلاح، وبسبب من استمداده طاقاته ومحدداته من مصادر أصيلة حاضرة وفاعلة، سبق رصدها وتحليلها. رابعا- ارتباط تصور خلق الأمل فى التصور الإسلامى بإرادة تنمية العالم، إن الأمل -بما تجلى فى مصادره وخصائصه- طاقة ملهمة ينبغى على الدعاة تمثلها وامتلاكها، لأنها واحدة من أعظم سبل التمكين للإسلام، وإذا كنا قررنا أن الأمل يولد أولا فى السماء فإن الدعاة هم أقدر من ينزله ليزرعه فى صدور الناس، لكى نعود لنتنفس بعضا من الهواء النقى!