بعد لقاء الرئيس محمد مرسى برؤساء الهيئات القضائية واستماعه إلى مطالبهم وبدء العمل على التحضير لمؤتمر العدالة الذى سيناقش كل ما يتعلق بضبط المنظومة القضائية، أصبح فى حكم الواقع أن قانون السلطة القضائية الجديد لن يرى النور إلا بعد انتخاب مجلس النواب المقبل، أى بعد شهور عدة، وأصبح فى حكم الواقع أيضا أن القانون لن يخرج إلا بصورة توافقية، بعدما دخلت معه على خط التماس معظم القوى السياسية. ما يثير الانتباه هنا هو حجم المناورات والمزايدات السياسية التى أحاطت بفكرة إصلاح القضاء وما جرى من فعاليات خلال الأسابيع الماضية تنادى بهذا الإصلاح، ومدى جدية الأطراف كافة فى تبنى الفكرة والعمل على تحويلها إلى واقع، والدوافع التى أدت إلى الحديث الواسع الشامل عن القضاء فى ظل الظروف التى تمر بها البلاد بعد الثورة. إذا بدأنا بالدوافع فسوف نلحظ أن رجال القضاء أنفسهم هم من كانوا سببا فى التعجيل باستدعاء الشبهات وإشعال الحرائق الكلامية حول مواقفهم الملتبسة وغير الواضحة فى بعض القضايا، أو أحكامهم المسيسة التى تناقض المنطق والعقل أحيانا وتعمل على دعم الثورة المضادة، أو آرائهم التى بدءوا يجاهرون بها فى الموضوعات السياسية ومن ثم أصبحوا ضيوفا دائمين على برامج "توك شو"، رغم أن طبيعة وظيفتهم ودورهم المجتمعى الحساس تحتم عليهم أن ينحّوا ميولهم السياسية جانبا ولا يجاهروا بها، كما تؤكد ضرورة أن ينئوا بأنفسهم عن الكلام فى موضوعات مثارة ومحل نزاع بين أطراف مختلفة. من ذلك ما رأيناه من تردد لمجلس القضاء الأعلى فى موضوع رفع الحصانة عن رئيس نادى القضاة الحالى بعد أن طلبت نيابة الأموال العامة التحقيق معه فى بلاغات تتعلق باستيلائه على أراضٍ تجاوزت مساحتها 180 فدانا مملوكة لبعض الأهالى بوضع اليد بمنطقة الحمام بمرسى مطروح، كذلك الموقف الغامض للمجلس ذاته فى قضية النائب العام، حيث ناشد المستشار طلعت عبد الله العودة إلى منصة القضاء تاركا المنصب، بعد حكم من دائرة رجال القضاء بمحكمة استئناف القاهرة بإلغاء قرار رئيس الجمهورية بتعيينه رغم أن قرار الرئيس سليم من الناحية القانونية. يلحق بذلك براءات من القضاء وإفراجات من النيابة عن متهمين فى جرائم جنائية تتعلق بالثورة وما زالت مستمرة حتى الآن، ما أثار شكوك المجتمع ووضع القضاء- للأسف- فى دائرة الاتهام. أما المناورات السياسية فبدت فى تحرك سريع للأحزاب الإسلامية بطرح مشروعات قوانين للسلطة القضائية واستعجال مناقشتها فى مجلس الشورى الذى تتمتع فيه هذه الأحزاب بأغلبية، رغم إدراكها أنه يصعب عمليا مناقشة وإقرار مثل هذا القانون المهم دون أن يكون لرجال السلطة القضائية رأى فيه، ودون أن يأخذ حقه من المناقشة المطولة فى المجلس ذاته، وربما كان إصرار هذه الأحزاب على مناقشة القانون بعد لقاء الرئيس بممثلى ورؤساء الهيئات القضائية واتفاقه معهم على التعجيل بوضع تصوراتهم عن القانون جزءا من هذه المناورات، لإحداث صيغة من التوازن بين ما يطمحون إليه وما يهدف القضاة أنفسهم لتحقيقه. وأما المزايدات فبدأت مع بداية الحديث عن قانون جديد للسلطة القضائية، وكانت بالطبع من جانب الأحزاب العلمانية بكل تنوعاتها، حيث سارعت باتهام السلطتين التنفيذية والتشريعية بأنهما يجهزان ل"مذبحة جديدة للقضاة"، وأخذت تكيل الاتهامات هنا وهناك، ليس لوجه الله ولا لصلح القضاة وإنما فقط للمكايدة السياسية، وقد أسقط فى أيديهم عندما تعهد الرئيس للقضاة بأنه سيرعى مطالبهم ويرفع القانون الذى يقرونه من خلال مؤتمر العدالة إلى المجلس التشريعى أيا كان. وأظن أن استواء قانون جديد للعدالة أو للسلطة القضائية عبر المؤتمر لن يكون سريعا أو مباشرا ولكن سيأخذ وقتا ليس بالقليل، مما يوصلنا إلى النتيجة الحتمية بأن قانون السلطة القضائية سيكون من التشريعات التى سوف تعرض على مجلس النواب المنتخب، وهذا أوفق سياسيا ومجتمعيا، ولهذا آن الأوان أن يكف الجميع عن الكلام.