حين نتأمَّل تاريخ المُصْلِحين الذين وفَّقهم الله عز وجل لقيادة الأمم بعد إصلاحها، وعلى رأسهم الأنبياء والرسل عليهم جميعًا أفضل الصلاة والسلام، نجد مواقف تلْفِت النَّظر وتُحَيِّر الألباب ما بين الافتراء والتكذيب والكذب عليهم والتضليل والتَّهْرِيج واختلاق التُّهَم، وصدق الله العظيم إذ يقول: "وقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ" (إبراهيم: 13). واليوم نعيش فى مثل هذه الافتراءات من كل أفَّاكٍ أَثِيم من جانب المفترين، ونجد صبرًا على الأذى وتحملًا لكل ما يضيق به الصدر من جانب المؤمنين الصادقين. وقد قال القائل عن كثرة الصبر الجميل من الذين يتحمَّلُون الأذى: صَبَرْنَا إلى أنْ ملَّ مِنْ صَبْرِنَا الصَّبْرُ وَقُلْنَا غدًا أو بَعْدَه يَنْجَلِى الأمرُ وَقُلْنَا عَسَى أَنْ يَلْحَقَ الحَقُّ أهْلَه فجَاءتْ تُنَادِى لا، ولا طَعْمُهَا مُرُّ وفى هذه المعارك المُفْتَعَلَة التى يبتكرها ويقودها شياطين الإنس والجنّ، يحضرنا المنهج الربانى؛ ليؤكد لنا أن هذه طبيعة الطريق منذُ سيدنا آدم عليه السلام إلى يوم القيامة، وها هو سيد الخلق من أول يوم فى دعوته ينزل عليه الوحى يناديه ويُكلِّفه ويأمره بالعمل مع نفسه والتربية لها وأن يستعين بذلك على دعوته، فيقول له فى وضوح ما ينبغى علينا أن ندركه تمامًا وأن نتترَّس به.. يقول سبحانه: "يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إلا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ورَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا *إنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِى أَشَدُّ وطْئًا وأَقْوَمُ قِيلًا" (المزمل: 1-6). وحين دعته السَّيِّدَة خَدِيجَة رضى الله عنها للراحة والنوم قال لها: "مضى عهد النوم يا خديجة"، فقام صلى الله عليه وسلم لم يعرف الراحة داعيًا ومجاهدًا ومهاجرًا ومعلمًا حتى لَقِى ربه، ولقد قال أحد مَنْ قرأ الكتب قبل الإسلام وعرف طبيعة الرسالات قبل الرسالة الإسلامية وكيف تواجه الرسالات من الضالين، وهو ورقة بن نوفل الذى أسرعت إليه السيدة خديجة ومعها سيد الخلق فقالت: اسمع من ابن أخيك، فقصَّ عليه رسول الله ما كان بينه وبين جبريل عليه السلام، فردَّ عليه ورقة بكلام خطير: "لم يأتِ أحد بمثل ما جِئْتَ به إلا عُودِى، وهذا هو النَّاموس -الوحى- الذى أنزله الله على موسى"، لقد قال ورقة للرسول صلى الله عليه وسلم ثلاث كلمات ينبغى أن نقف عندها طويلًا: لتُكَذَبَنَّ، ولتُؤْذَيَنَّ، ولتُخْرَجَنَّ.. إنها إشارات واضحة فى عالم الدعوات والرسالات تبدأ بالتكذيب والرمى به والاتهام لصاحب الحق، فإذا لم ينفع التكذيب فالتعذيب، فإذا لم يُجْدِ التَّعذيب فيكون الإخراج، وفى هذه الأثناء وغيرها يُثَبِّت الحق تبارك وتعالى رسوله ويدعوه للصَّبْر الجميل فى مقابلة هذا الأذى فى صدر سورة القلم، قال تعالى: "ن والْقَلَمِ ومَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وإنَّ لَكَ لأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ ويُبْصِرُونَ * بِأَيِّكُمُ المَفْتُونُ* إنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ" (القلم: 1-7). وفى الآيات شهادة من خالق الكون ومالكه للمصطفى -صلى الله عليه وسلم- يؤكدها الحق تبارك وتعالى بقوله: "وإنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ".. (إن الوجود ليهتزّ تجاوبًا وفرحًا لهذا الثناء على النَّبِى صلى الله عليه وسلم، ويعجز كل قلمٍ وكل تصورٍ عن وصف قيمة هذه الكلمة العظيمة من ربِّ الوجود، وهى شهادة من الله فى ميزان الله لعبد الله، إن دلالة هذه الكلمة تبرز من نواحٍ شتَّى: تبرز من كونها كلمة من الله العلى الكبير المُتَعال، يُسَجِّلها ضميرُ الكون، وتثبت فى كيانه، وتترَدَّد فى الملأ الأعلى إلى ما شاء الله)، من الظلال بتصرف. وها هو المُربِّى والمُوجِّه والإمام حَسَن البَنَّا -رحمه الله- يُشِير بوضوح إلى خِسَّة أعداء الإسلام وكيدهم للأبرار الذين يحملون الحق ويهبون حياتهم لهذا الحق، ويعيشون من أجله، ويجوعون ليشبع الناس، ويسهرون لينام الناس، ويتعبون ليرتاح الناس، ويجاهدون فى سبيل الله صونًا لأمَّتِهم وحفاظًا عليها ودفاعًا عن مقدساتها، فهم بحمد الله تعالى أحرص الناس على وحدة الأمة وعلى حفظ كيانها كاملًا، والله يعلم وأنتم لا تعلمون، وكفى بالله شهيدًا وكفى بالله حسيبًا. يقول الإمام: "رَمْى الأبرياء بالخيانة عند بعض الناس أمر سهل، يتلمس له الناس السُّبُل والأسباب ويترقَّبُون له الفرص، فيتَّهِمُون العاملين ويُشوِّهُون جهادهم، ويُلْصِقُون بهم التهم فى يُسْرٍ وسهولة وبساطة وبلا مبالاة وكأنَّهم لم يعملوا شيئًا..!، ما أسهل على الخصوم من تحبير المقالات وإطلاق الألسن؛ لأن الضمير نائم والجسد يُغْرِى النفوس بالعدوان، والفشل يُعْمِى الأبصار، واليأس من النجاح فى محاربة الخير يدفع إلى المغالطة واختراع الأكاذيب، ونحمد الله عز وجل أن جعلنا من أَعْجز الناس فى هذا النوع من الحروب، فنحن نشتغل بعلاج عيوبنا ومداواة نفوسنا وبناء مجتمعنا (وطُوبَى لِمَنْ شَغَلَهُ عَيْبُهُ عن عُيوبِ النَّاس). ليس لدينا وقت لتتبُّع المثالب، ولن نرضى لأنفسنا صناعة المقالب وترويج الاتهامات ولو بالحق، ولو عرفنا -بلا قصد- نقيصة فى أحد أو عيبًا فى إنسان لسترناه؛ لأن الله حَيِى ستِّير يُحِبُّ الحَيىّ السِّتِّير، لكل دعوة شياطين أكل قلبهم الحقد وأعمتهم الغيرة، لا همَّ لهم إلا محاربتها بكل الوسائل، وما يظهر فى هذه الأيام من محاولات وجهود لمحاربتنا والكيد لنا، والافتراء علينا لن يجعلنا نتَحَوَّل عن طريقنا المرسوم فى القرآن الكريم، ولن تزيدنا الشدائد إلا قوة، والبلاء إلا صلابة، والعقبات إلا سرعة ونجاحًا، فهذا هو ميدان الكفاح والنصر إن شاء "ولَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ والصَّابِرِينَ" (محمد: 31). أيها الإخوان.. هذا طريقكم، سلكه الروَّاد من حملة الحق وحافظوا عليه بدمائهم وأموالهم وحياتهم.. بذلوا فيه كل رخيصٍ وغالٍ.. لا ينفع فيه إلا الإخلاص والصدق والعطاء، ولا يثبت عليه إلا الذى رأى الله تعالى فيه خيرًا وعرف عنه الوفاء لأمته والغيرة على دعوته، وعدم مقابلة السيئة بمثلها، بل هم يدرءون بالحسنة السيئة. قال تعالى فى شأن المؤمنين الصادقين -نسأل الله تعالى أن نكون منهم-: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ولا يَنقُضُونَ المِيثَاقَ * والَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ * والَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وجْهِ رَبِّهِمْ وأَقَامُوا الصَّلاةَ وأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وعَلانِيَةً ويَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا ومَن صَلحَ مِنْ آبَائِهِمْ وأَزْوَاجِهِمْ وذُرِّيَّاتِهِمْ والْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" (الرعد: 20 - 24). وقد أشار الحق تبارك وتعالى إلى الذين يَحْمِلُون هذا الحق ويدافعون عنه ويرفعون رايته ويُقْبِلُون على ربِّهِم فلا يَهِنُوا ولا يضعفوا، بل يزدادوا مع الشدائد يقينًا وثباتًا وحبًّا لهذا الحق الذى أكرمهم الله سبحانه به هم الأبرار الأحرار، قال تعالى: "وكَأَيِّن مِّن نَّبِى قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ومَا ضَعُفُوا ومَا اسْتَكَانُوا واللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * ومَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وإسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى القَومِ الكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ واللَّهُ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ" (آل عمران: 146-148). اللهُمَّ إنَّا نَطْمَعُ فى رَحْمَتِك ونَرْجُو ثَوابَك.. اللهُمَّ تقبَّلْ أعْمَالنا وارْحَمْ ضَعْفَنَا، وانْصُرْنَا على من خَذَلَنا وعَادَانا.. اللهُمَّ احْشُرْنَا فى زُمْرَةِ الأَبْرَار من عِبَادِك الصَّادِقِين من جُنُودِكَ والصَّابِرين من أوليائِك.. اللهم لا تُؤمِّنَا مَكْرَك، ولا تُولِنا غَيْرَك، ولا تُنْسِنَا ذِكْرَك، وتُبْ علينا إنَّك أنت التَّوابُ الرَّحِيم.. اللهُمَّ اشْفِ مَرْضَانَا وتَقَبَّلْ شُهَدَاءَنَا، واجْعَلْهُمْ مِنْ أَهْلِ الجَنَّة.. اللهُمَّ آمين. والله أكبر ولله الحمد