رئيس جامعة الأزهر يعلن افتتاح كلية جديدة للتمريض في العالم الدراسي المقبل    البابا تواضروس: مصر تعتبر القضية الفلسطينية من أهم أولوياتها    محافظ سوهاج: خلق محاور مرورية جديدة تسهم في تخفيف الزحام    إعلام إسرائيلي: الجيش سيبدأ الليلة في هدم 106 بنايات بالضفة    الدفاع الروسية: إسقاط تسع مسيرات أوكرانية في أجواء مقاطعتي بيلجورود وكورسك    الزمالك يستعد لمواجهة سيراميكا كليوباترا دون راحة    منتخب سلاح الشيش رجال يحقق المركز الرابع بكأس العالم في كندا    «حقنة دون وصفة طبية».. حيثيات الحكم على صيدلي وعاملين تسببوا في وفاة شاب    هل بدأ الصيف؟ بيان الأرصاد يكشف طقس الساعات المقبلة (عودة ارتفاع درجات الحرارة)    تجديد حبس قاتل زوجته في المنيا لمدة 15 يومًا    نجوم الوسط الفني يحتفلون ب«الزغاريط» في حفل زفاف رنا رئيس| صور    ليلى علوي تقدم واجب العزاء في المنتج الراحل وليد مصطفى    بمباركة أمريكية.. ما دور واشنطن في الضربة الإسرائيلية الأخيرة على الحوثيين؟    "ابدأ حلمك" يواصل تدريباته فى قنا بورش الأداء والتعبير الحركى    محمد عشوب: عادل إمام لم يصبه الغرور    وكيل صحة المنوفية: فرق مكافحة العدوى خط الدفاع الأول داخل المستشفيات |صور    شولتز: ألمانيا ستواصل دعمها لأوكرانيا بالتنسيق مع شركائها الأوروبيين    المغرب وموريتانيا يبحثان ترسيخ أسس التعاون جنوب-جنوب ومواجهة التحديات التنموية    تصعيد عسكري في غزة وسط انهيار إنساني... آخر تطورات الأوضاع في قطاع غزة    التصريح بدفن جثتين طفلتين شقيقتين انهار عليهما جدار بقنا    «حتى أفراد عائلته».. 5 أشياء لا يجب على الشخص أن يخبر بها الآخرين عن شريكه    أسرار حب الأبنودى للسوايسة    وزير الرياضة يهنئ المصارعة بعد حصد 62 ميدالية في البطولة الأفريقية    محافظ سوهاج: مستشفى المراغة المركزي الجديد الأكبر على مستوى المحافظة بتكلفة 1.2 مليار جنيه    جامعة العريش تستقبل وفد الهيئة العامة للاعتماد والرقابة الصحية    أسعار النفط تتراجع 2.51%.. وبرنت يسجل أقل من 60 دولاراً للبرميل    الرئيس عبد الفتاح السيسي يصل مقر بطولة العالم العسكرية للفروسية رقم 25 بالعاصمة الإدارية "بث مباشر"    الإفتاء توضح الحكم الشرعي في الاقتراض لتأدية فريضة الحج    أمين الفتوى يوضح حكم رفع الأذان قبل دخول الوقت: له شروط وهذا الأمر لا يجوز شرعًا    عاد من الاعتزال ليصنع المعجزات.. كيف انتشل رانييري روما من الهبوط؟    زراعة الشيوخ توصي بسرعة تعديل قانون التعاونيات الزراعية    خوفا من الإلحاد.. ندوة حول «البناء الفكري وتصحيح المفاهيم» بحضور قيادات القليوبية    "الجزار": انطلاق أعمال قافلة طبية مجانية لأهالي منطقة المقطم.. صور    وفاة نجم "طيور الظلام" الفنان نعيم عيسى بعد صراع مع المرض    محافظ القاهرة يعتمد جدول امتحانات الفصل الدراسي الثاني| صور    وصلت لحد تضليل الناخبين الأمريكيين باسم مكتب التحقيقات الفيدرالي.. «التصدي للشائعات» تناقش مراجعة وتنفيذ خطط الرصد    ما حكم نسيان البسملة في قراءة الفاتحة أثناء الصلاة؟.. عضو مركز الأزهر تجيب    وضع السم في الكشري.. إحالة متهم بقتل سائق وسرقته في الإسكندرية للمفتي    «هكتبلك كل حاجة عشان الولاد».. السجن 10 سنوات لمتهم بإنهاء حياة زوجته ب22 طعنة    سفيرة الاتحاد الأوروبي ومدير مكتب الأمم المتحدة للسكان يشيدا باستراتيجية مصر لدعم الصحة والسكان    حقيقة تعثر مفاوضات الزمالك مع كريم البركاوي (خاص)    «اللعيبة كانت في السجن».. نجم الأهلي السابق يفتح النار على كولر    لمدة 20 يوما.. علق كلي لمنزل كوبرى الأباجية إتجاه صلاح سالم بالقاهرة    مستشفى قنا العام تنجح في تنفيذ قسطرة مخية لمسنة    "قومي حقوق الإنسان" ينظّم دورتين تدريبيتين للجهاز الإداري في كفر الشيخ    العملات المشفرة تتراجع.. و"بيتكوين" تحت مستوى 95 ألف دولار    هيئة الصرف تنظم حملة توعية للمزارعين فى إقليم مصر الوسطى بالفيوم    الهند تحبط مخططا إرهابيا بإقليم جامو وكشمير    إعلام إسرائيلى: الحكومة تقرر عدم تشكيل لجنة تحقيق فى أحداث 7 أكتوبر    وزارة الصحة تعلن نجاح جراحة دقيقة لإزالة ورم من فك مريضة بمستشفى زايد التخصصي    قطاع الرعاية الأساسية يتابع جودة الخدمات الصحية بوحدات طب الأسرة فى أسوان    الدكتور أحمد الرخ: الحج استدعاء إلهي ورحلة قلبية إلى بيت الله    شيخ الأزهر يستقبل والدة الطالب الأزهري محمد أحمد حسن    جوري بكر في بلاغها ضد طليقها: "نشب بيننا خلاف على مصروفات ابننا"    «حلم منذ 100 عام».. ترامب: سنبني قاعة رقص عالمية في البيت الأبيض    محمود ناجي حكما لمواجهة الزمالك والبنك الأهلي في الدوري    نتنياهو: خطة غزة الجديدة تشمل الانتقال من أسلوب الاقتحامات لاحتلال الأراضى    ارتفعت 3 جنيهات، أسعار الدواجن اليوم الإثنين 5-5-2025 في محافظة الفيوم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أُم نضال".. نموذج مشرف ل"نضال أمّ"


* سويعات وينطلق الفتى القسامى نحو هدفه
* أول الخريجين.. الدارس اللامع بمدرسة أم نضال
* الأم الرءوم تلثم جبينك المحنى بدمك الطاهر بقبلة أخيرة
* "نضال" أول فرحتها.. الشهيد الثانى دكتوراه فى هندسة الصواريخ!
* بلاط زنزانته البارد يلثم جراح جسده المسجى
* "رواد".. أصغر الشهداء سنا وأشدهم وجعا رائد فى درب الجهاد
* طلبت من ولدها "نضال" إغلاق هاتفه حتى لا يمنحه فرصة أخرى للتواصل مع دنيا يودعها
* ظل "نضال" يحتفظ بالملابس المضمخة بدم "عماد عقل" ورائحة المسك فيها وفى دارنا حتى قصفت الدار وأعدنا بناءها
* دخل علىّ وفى يده أول صاروخ صنعه فرحت أتلو عليه القرآن وأدعو الله أن يسدد رميته ويبارك فيه
* كان ابنى "نضال" يعتبر تصنيع وتطوير الصواريخ كل حياته.. وصاروخ القسام أغلى من ابنه "عماد"
* ما أقسى أن يصير الكريم أسيرا فى يد الأذلاء.. وأن يبقى الليث رهين قضبان الكلاب
* وقَّع "نضال" على مشروع بحثه الأخير بدمه.. حينما استهدفت قذائف العدو موقعه هو والطائرة التى كان يستعد لإطلاقها
* كان الرباط عشق "رواد".. وكانت ليلته الأخيرة فى تلك المنطقة التى اعتادت مجموعته الرباط فيها
* احتسبت ولدى "رواد" عند الله.. وما عند الله خير وأبقى
* كانت تذهب سرا بين الحين والآخر.. تبث شوقها للراحلين إلى الآخرة
تمهيد:
إذا كان التاريخ الإسلامى قد أثنى على "رجال" وقفوا بجوار النبى صلى الله عليه وسلم، فى مسيرته الطويلة، منذ نزول الوحى عليه، وحتى وفاته، مرورًا بالمراحل التى مر بها على مدى 23 سنة عاشها داعيًا إلى الله، فى ربوع الجزيرة العربية، فإنه لم يغفل الدور الذى قامت به نساء فضليات عشن مناصرات لهذا الدين العظيم، داعيات إلى الله، مجاهدات مع نبيه.
وقد قدمت الصحابية الجليلة والشاعرة القديرة (الخنساء) تماضر بنت عمرو بن الشريد بن رباح السلمية، نموذجًا رائعًا يحتذى به، من عصر النبوة، بقولتها التى سجلها التاريخ بمداد من ذهب على صحائف من نور، عندما قالت لما بلغها خبر استشهاد أبنائها الأربعة فى معركة القادسية: (الحمد لله الذى شرفنى بقتلهم، وأرجو من ربى أن يجمعنى بهم فى مستقر رحمته).
وفى هذه السطور، نقلب مع "الحرية والعدالة" صفحات مضيئة، من حياة واحدة من "صحابيات هذا العصر" الذى نحياه -إن جاز التعبير- حيث ضربت المثل فى الصبر والتحمل، والتضحية والثبات، إذ قدمت ثلاثة من فلذات أكبادها، فى معركة التحرير المستمرة ضد المحتل الإسرائيلى الغاصب... إنها الشهيدة «أم نضال»، مريم فرحات، النائب فى المجلس التشريعى عن كتلة التغيير والإصلاح، التابعة لحركة المقاومة الإسلامية «حماس»، والملقبة ب«خنساء فلسطين».
أعدتها للنشر: هبة زكريا
تناولنا فى الحلقة الأولى من صفحات خنساء فلسطين، ذكرياتها عن جوانب من شخصية القائد القسامى الشهيد عماد عقل، وحديثها عن "الشهادة فى سبيل الله"، وكيف أنها فن لا يتقنه كل أحد، ثم حكايتها عن أول أبنائها الثلاثة الذين لقوا ربهم شهداء، وهو الشهيد "محمد".. خامس الأبناء الرجال، الأكثر شبها بأمه. وفى هذه الحلقة تكمل أم نضال ذكرياتها عن أبنائها الشهداء، فتحكى لنا عن "نضال" أول فرحتها، وشقيق روحها، ثم "رواد"، أصغر الشهداء سنًّا، وأشدهم وجعًا...
يااااااالله.. إنه يحدثه عن خطة تنتهى بموته.. وهو يتفاعل معه كأنهما يتحدثان عن شخص آخر أو عن قصة من نسج الخيال..
- نضال: أول ما تنزل بتقص السلك.. شايف كيف؟
- محمد: أقصو يعنى.
- نضال: آه وبتخش انت بعدها عالجامعة.
- محمد: فى الليل؟
- نضال: لا فى النهار، مش حتكون بعيدة، يمكن حوالى 15 متر.
- محمد: فى المنطقة هديك جيبات بيروحو وبيجو؟
- نضال: لا لا.. انت حتمرق بين شجر.. والسلك داخل فى وسط الشجر.. يعنى حتنزل جوة ومش حتلاقى حدا.. حتى لو إجا الجيش مجرد ما تقص السلك.. فش مسافة 15 متر.. انت عارف قديش يعنى 15 متر؟
- محمد: هم الشباب قالوا لك 15 متر يعنى..
- نضال: يا سيدى اعتبرهم 100 متر.
- محمد: يعنى جامعة عادية والجامعة ومطعم وزى هيك وكبيرة.
- نضال: مش كبيرة كتير قول يعنى 2 غرف زى هدول.
- محمد: أنا خايف نروح نلاقيها فاضية نقعد نخبط فى حالنا.
- نضال: لا لا حيكون إلها وقت معين للدراسة.. الكرفانات زى اللى فى الغرفة هادى.
- محمد: امممم.
- نضال: 2 كرفانات فوت عليهم خش.. لو خشيت بصف واحد.. أهم شغلة اللى بيحاول يشرد طخ عليه.. انت بتيجى بتحاول انت اطخ عالى بيشرد.. فاللى بيشرد قبل ما يشرد بتقصو.. كويس؟
- محمد: آآآه
- نضال: طخ قد ما تطخ يا زلمة، إهم اشى ما تلتخمش وانتا بتفك المخازن.. المخزن اللى بتفكه ارميه مش تحطه بجيبتك هان بيلزمكاش.. عالسريع المخزن عارف إيش تسوى فيه؟ فكيتو هيك إرميه تحت رجلك خد غيرو.. وركب وارميه.. خد وركب.. أهم شغلة خد ساتر وما تترددش ولا لحظة.
- محمد: وأنا قاعد بطخ مثلا باتحاصر.. اللى بجينى خلص بدى أطلع قدامه.
- نضال: لو إجا الجيش وخلصت عمليتك أهم شغلة.
- محمد: لو إجا الجيش وضمنا خمسة ستة قتلناهم.. وحاصرونا الجيش اطلع عليهم حتى لو بقنبلة واحدة.
- نضال: اتحطش فى بالك انك تتردد وتقعد بقرنة واطول وبدك تقاوم خلص انهى واستشهد.
- محمد: خلص بعد ما ينعرفو كمان بيكونو الإخوة حذروا إنو اليهود بيهجموا وبيحاصروا.
- نضال: اللى بتقدر تكسبو بالأول بتكسبو.. يا سيدى ربنا يوفقو إن شاء الله ويرزقكم الجنة.
- محمد: أهم حاجة.
- نضال: ويتقبل عملكم.
سويعات وينطلق الفتى القسامى نحو هدفه.. تودعه فى ثبات.. تقبض على الدموع بإرادة من حديد.. توصيه بذكر الله والتوكل عليه والتركيز فى عمليته.. تطلب منه إغلاق هاتفه حتى لا يتسبب فى كشف العملية أو يمنحه فرصة أخرى للتواصل مع دنيا يودعها.. ما يكاد يخرج حتى تسرع لغرفتها.. تفترش سجادة الصلاة.. وتنخرط فى صلاة ودعاء متواصلين أن يوفقه الله.. تطول الساعات فيزداد القلق.. أتراه أسر؟.. ربما.. أراودته نفسه فتراجع؟.. "كلا".. تنفض الخاطر عن ذهنها سريعا.. فلقد ربته هى وتعرف جيدا أن الوهن ما كان ليصيبه..
تتعلق أنظار إخوته بشاشة التلفاز بانتظار الخبر.. أما الأخ الأسير الذى يعلم جيدا بموعد العرس فيتوجه للصلاة وقد حرص كل الحرص أن يبقى جسده بين زملائه دون أن يبدو عليه أى قلق أو انتظار.. بينما قلبه هناك مع محمد.. وبين إخوته ووالدته.. ينتظر.. وينتظر..
الأخ الثالث، مرافق الياسين.. يقترب منه بهدوء "شيخنا.. محمد الآن هناك.. فى وكرهم الخبيث.. ينتظر اللحظة المناسبة حتى ينقض عليهم.. فيدمر أوهامهم على أرضنا الطاهرة.. ويشتت جمعهم البائس.. ادع له شيخنا"...
ينتفض الياسين ثائرا: "هذا الفتى الصغير؟!.. حرام عليكم تضيعوه.. كيف سيقوم بعملية كهذه.. إن دمه الغالى لا يجب أن يسيل هدرا.. لم يأخذ حظه من التدريب الكافى بعد، الذى يمكنه أن يصيب منهم..."، يجيب الأخ: "لا تقلق شيخنا إن شاء الله سيبلغ غايته ويكبدهم فوق ما نأمل"... يشيح الشيخ بوجهه مغاضبا وتنهى شفتاه المضمومتان فى حزم الكلام.. بانتظار ما تسفر عنه الأحداث.
وعبر الأثير ينتهى وجع الانتظار.. وتقول أنباء العدو إن "مجموعة من المخربين اقتحموا أكاديمية عسكرية بمستوطنة عتصمونا.. وأسقطوا عددا من القتلى والجرحى لم يعرف عددهم بعد ولا يزال القتال مستمرا".. وتتوارد مزيد من الأنباء "7 قتلى و22 جريحا بعضهم فى حالة خطرة"... أما النبأ الأخير الذى أذل رقاب الصهاينة "ثبت أن من قام بالعملية أحد المخربين الذى قتل خلالها"...
الله أكبر ولله الحمد.. هذا هو.. أول الخريجين.. الدارس اللامع بمدرسة أم نضال.. فحق له أن يكون مجاهدا بكتيبة كاملة.
وبين قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِى حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَّكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ}، وقوله سبحانه: {الآَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنْكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}.. متسع لذوى الهمم العالية ليتسابقوا فى مضمار الصبر...
فقد سبق فى علمه تعالى حدود قدرات خلقه ودرجاتهم فى الصبر والثبات، فلا أقل من أن يكون مقابل المائة مائتين، ولكن الطريق مفتوح أيضا لمن أراد أن يكون ألفا.. والمناط هنا هو قدر الصبر فى الدنيا على الاستعداد لهذه اللحظة بالعمل الصالح، والصبر ساعة المواجهة التى قد تطيش فيها قلوب أشد الرجال..
وإنما يأتى قدر الزاد بحسن التوكل على من يرزق بالزاد {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِى الآَخِرَةِ...}.
"وهذا هو منهاج أم نضال فى التربية حين أوصته ب"ذكر الله والتوكل عليه والتركيز فى عمليته".. فأبى الفتى القسامى أن يكون ممن فيهم ضعف.. ورنا للمعالى.. وحاز قصب السبق.. فهدأت قلوب كل المنتظرين.. وسكنت بين الجوانح مطمئنة لقدر الله.. ومسحت الأم الرائعة دمعة غافلتها وتحررت من قيودها فى سرعة.. قبل أن تخر ساجدة شكرا لله.. بينما علت ابتسامة رضا وجه الياسين وتمتمت شفتاه بالدعاء للشهيد وأهله.. أما الأخ الأسير فأخفى بريق النصر عن أعين زملائه الذين كانوا يتابعون الحدث باهتمام فيما يحاول هو شغل نفسه بعيدا عنهم حتى لا تشى به ملامحه.. إلى أن ذكرت الإذاعة اسم صاحب العملية.. فكشف تشابه الأسماء الأمر، وتوافدوا عليه يسألونه "أهو قريبك؟".. فيجيب ببساطة وهدوء وفخر "هو أخى".
نحو 11 خزنة رشاش، وعدد من القنابل.. تمكن ابن التسعة عشر ربيعا أن يفرغها جميعا وسط متدربين وضباط فى مدرسة عسكرية قبل أن تفرغ ذخيرته ويتمكنوا من إصابته.. أى مدرسة تلك التى تدرب ونشأ فيها؟!.. إنها "أمّ نضال"، سيرا على نهج المدرسة المحمدية التى أخرجت خالدا والبراء وجعفر والزبير.
وها هى الأم الرءوم تلثم جبينك المحنى بدمك الطاهر بقبلة أخيرة فى هذه الحياة.. تستودعك من لا تضيع عنده الودائع..
"نضال".. أول فرحتها وثانى شهدائها
شهيدها الثانى: نضال.. أول فرحة الأمومة.. وشقيق الروح.. دكتوراه فى هندسة الصواريخ.. بل والطائرات المفخخة أيضا..
"جردوه من ملابسه.. عدا الداخلية البيضاء.. وقفوا بعيدا فى حذر وأمروه أن يحمل الجثمان من خلف الدار.. حمله بين ذراعيه وضمه إلى صدره فى حنان حتى صبغ دم صاحبه ملابسه البيضاء.. قال له فى فخر: هو ذا اليوم الذى كنت تحلم به يا عماد.. أن أحملك شهيدا بين ذراعى".. تروى لى أمى الحبيبة عن نضال وعماد عقل.. وتضيف "ظل يحتفظ بهذه الملابس المضمخة بدم عماد.. وظلت رائحة المسك فيها وفى دارنا حيث استشهد حتى قصفت الدار وأعدنا بناءها".
شهور بعد هذه الحادثة قضاها فى الأسر قبل أن يعود ثانية ليستأنف الطريق الذى يتوق لنهايته.. يدخل على الوالدة ذات يوما "أماه.. قررت نبلش بتصنيع الصواريخ هون فى غزة".. تتعجب من الفكرة فى البداية.. لكنها لا تستبعدها عن غرس يديها وعن الثقة بعون الله.. فتجيبه بكلماتها القليلة "توكل على الله ياما.. الله يسهل عليك".. بينما يستخف آخرون بالفكرة وينتقدها البعض، خاصة عندما يجدونه يجالس عناصر من فصائل أخرى يغالون فى معاداة حماس، ورجال يعتبرهم البعض غير جديرين بأفعالهم أن يجالسوا "نضال فرحات"..
"كان يستطيع التواصل مع الجميع من أجل تحقيق هدفه وبلوغ حلمه بتصنيع صاروخ للقسام.. لم يكن شىء ليحول بينه وبين ذلك، دخل علىَّ يوما وفى يده أول صاروخ والفرحة لا تكاد تسعه، وضعه بين يدى ورحت أتلو عليه آيات من القرآن الكريم وأدعو الله أن يسدد رميته ويبارك فيه".. وتستمر بيننا الحكاية.
"كان تصنيع وتطوير الصواريخ كل حياته.. كان يعتبر صاروخ القسام هو ابنه الأغلى.. أقسم لى ذات مرة قائلا: تعرفين يا أماه.. كيف أحب عماد ولدى (أول أبنائه الصبية).. ووالله لئن خيرت بين أن يأتى اليوم الذى يبلغ فيه مدى صواريخنا تل الربيع (تل أبيب) وتضرب عمق كيانهم الغاصب، وبين حياة عماد لاخترت الأولى".
"المواد المتفجرة التى تستخدم فى تصنيع الصواريخ كانت تعالج يدويا فى دارنا.. بل فى غرف نوم أبنائى وزوجاتهم.. حتى إن إحداهن فقدت جنينها الأول بعد ولادته مباشرة من كثرة ما استنشقت من هذه المواد خلال فترة الحمل.. كان هذا بعد استشهاد محمد مباشرة.. ورزقنا الله برؤيا أنه وعمه فى رفقة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى الجنة.. وأسميناه محمدا أيضا".
ها هم يقتحمون الدار بوجوههم القميئة.. مدججين بأرتال الأسلحة.. يتحصنون خلفها بجبنهم الذى جبلوا عليه، يقتادونه مقيدا بين العشرات منهم.. وصوت الأم الحنون يعلو قويا "فى سبيل الله ياما.. الله يتقبل منك"..
تستعيد الذكرى فى حديثها إلىّ، فتبرق عيناها عاكسة مجموعة متناقضة من المعانى.. الحب والعناد.. الإصرار والإشفاق.. الفخر والإخلاص.. تلوح ابتسامة خجل على محياها المثقل بتفاصيل السنين قائلة: "سبحان الله.. كان بينهم كأنه قائد وهم الأسرى.. كان أطول منهم جميعا.. أجمل منهم جميعا.. تاج من العزة يتوجه.. الله يتقبله ما بيغلى على الله".
ينهى صرير الباب المعدنى الثقيل علاقته بالعالم الخارجى لينقله إلى عالمه الخاص.. بلاط زنزانته البارد يلثم جراح جسده المسجى فى إنهاك شديد بعد ساعات طويلة من التحقيق.. ظلمة المكان تطلق روحه خارج إسار الجسد فيحلق بها فى آفاق نورانية.. يناجى حبيبه "ياااا الله.. لقد تعبت من الأسر.. فلا تكتبه علىَّ ثانية.. لكم اشتقت للشهادة"..
نعم.. تعب من الأسر.. فما أقسى أن يصير الكريم أسيرا فى يد الأذلاء.. وأن يبقى الليث رهين قضبان الكلاب.. أو هل نسيتم قول أخيه: "ما كان لمثل عماد أن يؤسر"..؟! وهو الحال ذاته مع نضال..
ويغشاه النعاس للحظات.. فتتنزل عليه رحمات رب العالمين.. ويرى شهادته فى سيارة بيضاء.. وأن موعد اللقاء قد اقترب..
يستيقظ فرحا بالرؤيا التى نزلت على قلبه بردا وسلاما.. يسجد شكرا لله ويدعوه أن "يا رب إن كانت رؤيا حق فأكدها لى".. وما تكاد عيناه تغفو حتى تتكرر الرؤيا.. فيصير على موعد مع الشهادة..
"منذ ذاك اليوم وهو لا يشترى إلا سيارة بيضاء كالتى رآها فى رؤياه.. ويقول: يا أماه.. هذه السيارة التى سأستشهد فيها".. تروى الحبيبة عن حبيبها الشهيد.
أما أخوه فيقول: "يوم استشهاده كان من المقرر أن نتوجه للمكان الذى يعمل فيه على تجميع طائرة مفخخة.. وكان هذا هو اليوم الذى سيتم فيه عمله ويضع اللمسات النهائية لها.. وقبل أن أستقل معه السيارة طلب منى ألا أفعل وأن يذهب وحده خشية أن نستهدف فيستشهد كلانا.. سبحان الله كأنه كان يستشعر الأمر".
ويصل أستاذ التصنيع إلى حيث مشروع الدكتوراه.. يتأمل الطائرة الصغيرة بعينين حالمتين.. يسرح خياله فى العملية القادمة وأثرها المزلزل فى كيان العدو.. وكأنى به يسترجع ذكرى البراء بن مالك.. حينما كان يعتلى فرسه قبل أى معركة ويتأمل أرضها.. ويرسم ملامحها.. سأقاتل هنا فأقضى على ثلاثة عن يمينى.. ثم أستدير لليسار لأعاجل من أتوا لنجدة زملائهم، قبل أن أدور على عقبى فأشق رأس هذا الذى يتربص بى من الخلف.. ثم تأتى الطعنة هاهنا فتطفئ برودة النصل لهيب الدم المتدفق حماسة فى قلبى.. ويبتسم برضا وهو يسدل جفنيه بقوة على أحلامه خشية أن تتسرب من مقلتيه.. ويفتح ذراعيه معانقا السماء.. ويأخذ نفَسا عميقا.. ثم ينطلق.. فلا يُرى فى المعركة من سرعة تنقله.. حتى يقول عنه الفاروق: "لا تولوا البراء جيشا مخافة أن يهلك جنده بإقدامه"..
إنهم الحالمون.. أولئك الذين ينسجون تفاصيل الحلم بأيام العمر ويغمسون ريشته فى دمائهم.. وهكذا كان أستاذ التصنيع.. قائدا فى كتيبة الحالمين.. وقع على مشروع بحثه الأخير بدمه.. حينما استهدفت قذائف العدو موقعه هو والطائرة التى كان يستعد لإطلاقها.. ولكن روحه المحلقة نحو الشهادة كانت تفوقها سرعة..
"رواد".. أصغر الشهداء سنا
أما شهيدها الثالث: فهو "رواد"، أصغر الشهداء سنا وأشدهم وجعا.. بسمة الدار.. المتخصص فى فن الرباط.. الدارس النابغ رغم حداثة سنه.. فعلى خطى أسامة بن زيد كان يسير.. قاد مجموعة وهو لم يتجاوز السابعة عشرة من عمره.. وفى هذه السن المبكرة كان موعده مع الجنة.. فودعته بنزف الفؤاد وابتسامة الشفاه ونبضات الصبر والاحتساب.
"رواد".. ويا له من رائد فى درب الجهاد.. أدفن وجهى فى قميصه الذى أهديتنى إياه أماه.. أستنشق تلك الرائحة التى لا تشبه أى رائحة أخرى فى حياتى إلا رائحة أنفاسك.. أتحسس نسيجه بأنامل ترتجف من رهبة الوصال ببقايا روحه التى تسكنه.. تشدنى خارج نطاق الزمان والمكان.. وكأنى أستقل آلة أسطورية.. أراه هناك عبر كلماتك...
"كان الرباط عشقه.. وكانت ليلته الأخيرة فى تلك المنطقة التى اعتادت مجموعته الرباط فيها.. ظل يقبل كل ركن هناك.. يودعه قائلا: إنها الليلة الأخيرة".
وقد كان.. ففى الليلة التالية وقبل أن يصل إلى المحل الجديد لرباط مجموعته، بادره النداء.. فلبى شوقا.. وبدا صوت الصاروخ الذى استهدفه كطبول عرس تزفه للحور العين.
سريعا عاش.. وسريعا نبغ.. وسريعا قضى.. وبدا كمن مر على الدنيا مرور الكرام.. ولكنه لم يكن كذلك على قلبك.. فلقد ذهب على غير تمهيد دون أن تشبع منه أحضانك أو ترتوى من بسمته أيامك.. فكان الوجع الأكبر حقا...
كم تمنيت أن تذهبى إلى حيث كان يرابط.. ربما تجدى فى هذا شيئا من السلوى.. هنا كان يتهجد.. هنا كانت تطأ قدماه.. هنا كان يقاسم رجال مجموعته الزاد... هذه الجدران لطالما استمعت لحديثهم وكانت شاهدا على ابتسامتهم واستخفافهم بالموت المحيق من كل مكان.. ولكنك قلتها لى: "خشيت أن يكون فى هذا سنة غير حسنة وتقديس للمكان.. فاحتسبته عند الله وما عند الله خير وأبقى، وآثرت عدم الذهاب".
ولكن الوضع مع محمد كان مختلفا.. فهناك.. حيث حمل الصهاينة أسمالهم وارتحلوا فى عتمة الليل هاربين يجرون أذيال الخيبة من قطاع غزة.. وتحديدا من مغتصبة عتصمونا.. هناك حيث وقف نزار ريان يزأر بصوته الهادر "اليوم نغزوهم ولا يغزوننا".. هناك حيث أتم رجال القسام ما بدأه محمد.. كنت تذهبين سرا بين الحين والآخر.. تبثين شوقك للراحلين بهتاف لا يقوى عليه جسدك المثقل بابتلاءات السنين.. تحاولين مناداته "يا محمممممممممممد.... يا محممممممممممد".. تروين ظمأ الأم برحيق الشهادة.. وتداوين آلام الفراق بمشاهد الانتصار.
هذه هى أمى "أم نضال".. وهذه مدرسة "أمة نضال" لتخريج الشهداء والمجاهدين.. وهذا هو قلبها الذى لم تفهمه ملكة بريطانيا "أم تشارلز" وأمثالها ممن اتهموها بأنها "أم بلا قلب ترسل أبناءها للموت"..
فكيف لمن ترسل أبناءها لأحضان الغوانى أن تفهم مشاعر من تدفع بفرسانها لخدور الحور.. كيف لمن لم يعش إلا بين السفوح أن يفهم معنى الحياة على القمم.. كيف لمن لم ير من الدنيا إلا وحلها أن يتصور رحابة سمائها؟!.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.