د.حمدى والى: الدعاة رُسل رسول الله.. وعليهم إدراك أن غايتهم البشرية كلها د.عبده مقلد: الناجح يختار الأسلوب المبتكر المؤثر تبعا للشريحة العمرية والحالة الثقافية د.سعيد أبو الفتوح: عليه الإلمام بقضايا العصر وأولويات مشكلاته وهموم الجمهور د.محمد على يوسف: لا تعارض بين الداعية المبتكر المبدع والداعية المنبرى الخطابى أصبح تجديد الفقه الدعوى ضرورة ملحة بعد ثورة 25 يناير فى ضوء أن المجتمع مقبل على مرحلة مختلفة من تاريخه، ومن ثم من تاريخ الدعوة فيه وفى ضوء المتغيرات الجديدة التى يشهدها المجتمع وعلو صوت المعادين للمشروع الإسلامى ومحاولاتهم لتشويهه وإفشاله. وتنبع أهمية التجديد فى المرحلة الحالية أن العوائق والتحديات مختلفة وتستلزم فطنة الدعاة لطبيعة المهام والأهداف الجديدة التى يجب أن يقبلوا عليها، وما يستتبع ذلك من أساليب ووسائل متطورة مختلفة بالقدر نفسه الذى تختلف معه المهام والأوضاع. وحول الأهداف الدعوية فى تلك المرحلة، يذكر د.حمدى والى -عضو الاتحاد العالمى لعلماء المسلمين- أن: الغايات الدعوية الكبرى محددة ومعروفة، ولكن ما نقوله إننا نريد أن نقصد إليها ونسعى فى سبيل ترسيخها فى النفوس والعقول، فالهدف الأعلى والأسمى هو تحرير الناس من العبودية للبشر أو الأهواء؛ بحيث تكون العبودية لله وحده، وتلك غاية كبرى، وهى أُم وأعلى الغايات الدعوية. ويضيف: تحرير الإنسان من عبودية غير الله وتحرير عقله من الخرافة وجسده من سلطان الشهوات، تلك هى المطالب الأولى التى تسير بالإنسان لأن يكون حرا وأن يكون سيدا كما أراد له الله عز وجل فيصير قادرا على أن يؤثر أو يحرك الغير. فإذا صحت العقيدة تهيأ الإنسان لأن يتعامل مع الكون بطريقة صحيحة، والرسول-صلى الله عليه وسلم- يقول: "ابدءوا بما بدأ الله به"، وبعد العقيدة تأتى العبادة وهى شاحن يملأ القلب باليقين فيحمله على العمل، ومن ثم يأتى فعل الخير ثم تقويم الأخلاق والسلوك؛ وهذا ما نفهمه من قوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمُ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. [الحج:77]". وبعد ذلك تأتى غاية أسلمة المجتمع وإقامته كله على منهج الله تعالى. هذا مع التأكيد أن تلك المراحل والغايات متوازية وليست متوالية. ويوضح قائلا: الأمر الآخر أن يتزود الداعية بالربانية الخالصة؛ فيرتفع فوق كل ما يطمح إليه البشر، تحقيقا لمقولة: "الله غايتنا"، فلا ينكسر ولا تعطله رغبة أو رهبة. ومع عظمة الغايات والربانية، على الداعية أن يملك همة عالية، يحفزه عليها عظيم غاياته؛ وإلا فما الذى يجعله يبذل أكثر مما يبذل الناس، أو أن يسهر والناس ينامون، ويحسن الأداء ويتقن أكثر مما يصنعه غيره. وقديما قالوا: وإذا كانت النفوس كبارا**تعبت فى مرادها الأجسام.. وقالوا أيضا: على قدر أهل العزم تأتى العزائم. فعلى الداعية أن يدرك أن غايته هى البشرية كلها، فالدعاة هم رُسل رسول الله إلى البشرية كافة، والأرض بأكملها فى حاجة إلى تلك الدعوة التامة. يضيف د.حمدى: أن غاية الداعية المرحلية الآن أن يحسن التوصيف، فعليه أن يتعامل مع الناس من حيث هم، فلا يتكلم مع العامة بكلام الخاصة، والعكس، فمثلا فى مصر، على الداعية أن يعى أن هناك أصحاب مشروع إسلامى فيخاطبهم بلغتهم، وهناك بخلاف ذلك خصوم لهذا المشروع يتعامل معهم بلغة الاستقطاب والحب والقرب واللين والرقة؛ بحيث لا يكون سببا لتكثير الخصوم من حوله. والفريق الثالث هو شركاء المشروع ممن لهم عاطفة إسلامية، والصنف الرابع هم بنية أو قاعدة المشروع وهم عامة الناس، وكل صنف من هؤلاء له أولوياته وخطابه التى لا بد من فهمها وإدراك أفضل المداخل لها. من جانبه ، يقول د.سعيد أبو الفتوح -أستاذ الشريعة بجامعة عين شمس-: إن من مهمات الداعية أن يواكب الأحداث الموجودة من حوله، بحيث يطرح فيها الرؤية المستنيرة للإسلام؛ سواء كانت تلك الأمور تتعلق بالنواحى الاقتصادية أو السياسية أو المجتمعية؛ ويضع داعية ذلك العصر فى اعتباره أن السياسة جزء من الدين، وليس كما يدعى البعض أنه "لا سياسة فى الدين"؛ فهذه مقولة كاذبة ومغرضة، كذلك الأمور الاقتصادية من أكثر الموضوعات المطروحة حاليا؛ نظرا لجدة معاملاتها وحاجة الناس المستمرة للوقوف على موقف الدين منها. ومن ذلك مثلا قرض صندوق النقد الدولى، أو مشروع الصكوك التى يرفضها الكثيرون؛ لا لشىء إلا لأنها مطروحة من قبل أصحاب المشروع الإسلامى، رغم أنها قد حققت نجاحا وفعالية فى العديد من دول العالم الإسلامية وغير الإسلامية مثل إنجلترا وماليزيا والإمارات وغيرها. وتابع: من الموضوعات الحديثة أيضا فكرة الديمقراطية والشورى والحياة النيابية وما على شاكلة ذلك من أمور السياسة الشرعية، فتتبع تلك القضايا يأتى للداعية من باب ترتيبه ومراعاته لفقه الأولويات. ويضيف د.سعيد أن الجماهير فى تلك الآونة يتعرضون للعديد من الرسائل المتنوعة القادمة من هنا وهناك، خاصة من الفضائيات ووسائل الإعلام، وكثير من القائمين على ذلك يتعمد التضليل والكذب والتشويه فى الكثير من القضايا، ولذا فتلك الرسائل تحتاج من الدعاة الفطنة والحذر، والمتابعة الجيدة لاستدراك الأخطاء، وتصحيح المفاهيم والأطروحات، وعرض صحيح الشرع وموقفه من المستجدات المتلاحقة المتتابعة. وعلى ذلك تكون من مهمات الداعية أيضا أن يعد نفسه بشكل جيد ودائم للقيام بتبعات الدعوة؛ بحيث يكون دائم الإلمام بقضايا العصر وأولويات مشكلاته والهموم الرئيسية عند الناس، هذا بخلاف أن يكون سلوكه الشخصى موضع التقدير والاحترام، بل والثناء من جميع من حوله. بدوره، يقول د.عبده مقلد-أستاذ الدعوة بكلية أصول الدين- إن: تجديد الفقه الدعوى إنما يعنى الفهم الدعوى وفقا لمتطلبات العصر؛ بحيث تتم مخاطبة جميع شرائح المجتمع، وتحرى الوصول إلى كل شريحة بما يناسبها ويلائمها من أدوات، ويكون ذلك عبر تجديد المضمون والوسائل والأساليب؛ فمن تجديد المضمون: تحرى الرد على الشبهات والمغالطات والأكاذيب مما يسىء إلى الوطن أو إلى الدعوة أو إلى قيم الإسلام ونظمه عموما. ويردف قائلا: من تجديد المضمون أيضا عدم حصر الخطاب الدعوى فى قائمة معينة من الموضوعات كالعبادات مثلا، فبذلك يفقد المتلقى الاكتراث بملفات قضايا الأمة.ومن تطوير الأسلوب؛ أن يكون الداعية محددا فى استخدامه للمصطلحات ومفرقا بين كل مصطلح وضده، فيتحدث عن كل معنى ببيان وضعه بين الفضيلة والرذيلة؛ فمن الفقه مثلا عندما نتحدث عن الحرية أن نبينها بضوابطها، وحدودها ومجالاتها، وأن الحرية كفضيلة لا تشمل أبدا التعدى على الآخرين، أو تعمد الأذى وإهدار الحقوق. ويتابع مقلد: من المصطلحات الشائعة أيضا "التمييز ضد المرأة"، فلا بد أن يوضح الداعية المقصود منه بدقة، ومَن وراء شيوعه وتسويقه فى مجتمعاتنا؟ وما الأهداف الحقيقية من ورائه؟ ومن الأساليب أن يكون عرض الداعية لفكرته متوازنا بلا مغالاة، فإن كان مادحا مثلا لفكرة ما -كالمساواة بين الرجل والمرأة- فقد يغالى جدا بحيث يتعدى المفهوم ويخرج عن طبيعة المرأة التى خلقها الله عز وجل. كذلك قد يتحدث عن حقوق الراعى وينسى حقوق الرعية، أو يتحدث عن حرية الرعية ويتناسى مسئوليتهم وواجباتهم وحق الراعى. ففكرة التوازن مهمة جدا، خاصة حينما نعرض لما نقبل أو نرفض من أفكار أو ممارسات أو نحكم على تصرفات الآخرين وأصحاب المشروعات الأخرى. وعن تطوير الوسائل يقول د. عبده مقلد: إنها تشمل على سبيل المثال التقنيات الإلكترونية والتكنولوجية، ومخاطبة الناس خاصة من الشباب عبر مواقع التواصل الاجتماعى المتعددة. ومن الأساليب القديمة والتى شاعت حديثا؛ الأسلوب الفنى فى عرض الفكرة أو المعلومة أو القيمة؛ فالنبى -صلى الله عليه وسلم- كان يستخدم أسلوب الرسم أحيانا، حينما خط خطا مستقيما وخط حوله خطوطا معوجة يمينا ويسارا، وقرأ قوله تعالى: "وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِى مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ". [الأنعام:153]، أى أنه استخدم -صلى الله عليه وسلم- أساليب الإيضاح لتأكيد وتثبيت فكرته. والشاهد أن الداعية الناجح هو الذى يعرف كيف يختار الأسلوب المبتكر المؤثر تبعا للشريحة العمرية والحالة الثقافية للجمهور الذى يتوجه إليه. وحول كيفية التوجه لأصحاب المشروعات المخالفة ، يذكر د.عبده: أن خطاب الآخر لا بد أن يأتى دون التصريح؛ خاصة إذا كان محل الحديث هو توجيه النقد، وفى غير ذلك يتحدث الداعية عن المبادئ بصيغتها العامة الكلية، فيحث الناس مثلا إبان الأجواء الانتخابية على اختيار الأفضل وتحرى الدقة ومصلحة المجتمع العامة، ويركز أيضا على بيان أهمية الإيجابية فى حياة الشعوب، وموقعها من الدين ومحاسبة الله عليها. مؤكدا أن مهمة الداعية أن يجعل الجميع من المتضامنين مع مشروعه الإسلامى بلا تنفير أو تحقير لحزب أو توجه آخر. إلا إذا اضطر الداعية أن يبين حكم الله فى حوادث أو وقائع بعينها. فى السياق نفسه ، يرى د.محمد على يوسف -الداعية والخطيب بوزارة الأوقاف- أن من تجديد الخطاب الدعوى أن يشتمل على البحث فى أصول المشكلات الحقيقية للناس، فلا يفترض الداعية أسبابا محددة للمشكلات ويعالج على إثرها دون أن ينزل للواقع ويرفعه على ألسنة أصحابه، فليس بالضرورة مثلا أن يكون الفراغ وكثرة المال هى الأسباب الوحيدة لانتشار المخدرات فى المجتمع؛ فقد تتعلق الأسباب بحالة الهروب من مشكلات أكبر كالبطالة والفقر. وهكذا. فأحيانا كثيرة عدم التشخيص الجيد قد يؤدى إلى خطاب لا يعنى المتلقى وبالتالى ينصرف عنه. وفيما يخص الأسلوب ، فهناك العديد من الأساليب الحديثة المؤثرة، خاصة ما كان منها يجيد الصياغة بشكل جمالى معين، ومن ذلك الأدب والرواية؛ فالواقع الحديث يثبت أن أكثر الكتب مبيعا فى العالم هى الروايات، فأكثر كتاب حقق مبيعات فى تاريخ العالم -باستثناء البيان الشيوعى لكارل ماركس- كان رواية "قصة مدينتين" للكاتب الإنجليزى "تشارلز ديكنز"؛ حيث باع على مستوى العالم ما يقارب مائتى مليون نسخة، ومثله حديثا رواية "هارى بوتر" حققت مبيعات 150 مليون نسخة. وأضاف: بالمقارنة لا نجد بأى حال من الأحوال الكتب التنظيرية بشكل عام -إسلامية أو غير ذلك- لا نجدها تقارب 1% من هذا الكم من الانتشار. ومن مدلولات ذلك أن الكتب المباشرة التقليدية لا تخاطب إلا أصحاب الاتجاه نفسه، ذوى نفس القناعات، ويبقى الداعية فى ذلك الإطار محصورا بمخاطبة الذات المشابهة، بعيدا عن حالة الانفتاح والانتشار المرجوة. والله سبحانه وتعالى يقول:"وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ"؛ وعليه فالغاية هى البيان، وكل ما يحققه فهو مقصد شرعى؛ طالما جاء ضمن الضوابط الشرعية. "ولكن هل يعنى ذلك أننا نحتاج الداعية المبتكر المبدع وليس الداعية المنبرى الخطابى؟"، يجيب د.يوسف على ذلك قائلا: لا غنى تماما عن الداعية المنبرى، والأمر لا يعنى أبدا التعارض؛ فالداعية والواعظ المباشر يعلم الناس الدين، فيحمى ويؤصل الثوابت، مثله كالجندى المرابط الذى يحمى الثغور. فوجوده هو الأساس ومن بعده ينطلق الدعاة المبتكرون المجددون ليواصلوا ما يبدأه ويؤسس له. يضيف: ومن الأمثلة على الابتكار والتجديد الدعوى ما ذكره الله تعال فى قصة أكبر معمّر داع فى التاريخ وهو نبى الله "نوح" -عليه السلام-؛ فقد أخبر الله تعالى عنه كيف أنه كان ينوّع فى الأساليب ويطرق كل الأبواب بشكل مستمر ومتتابع؛ يقول تعالى على لسانه: "قَالَ رَبِّ إِنِّى دَعَوْتُ قَوْمِى لَيْلًا وَنَهَارًا(5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِى إِلَّا فِرَارًا(6) وَإِنِّى كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِى آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا(7) ثُمَّ إِنِّى دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا(8) ثُمَّ إِنِّى أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا(9)". ثم نجده ينوع بين الترغيب والترهيب وبين الأثر الدنيوى للدين وبين الأثر الأخروى. فيقول: "فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا(10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا(11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا(12)" وهذا إنما يشير إلى أهمية بذل كافة المساعى الحثيثة لطرق كل أبواب القلب والعقل. وهذه أمور تختلف وتتنوع من عصر لعصر، خاصة أن المنافسة مع أصحاب المشروعات الأخرى قوية جدا، وليست قاصرة كما يظن البعض على برامج ال"التوك شو". فالروايات على سبيل المثال التى ذكرناها آنفا، تؤصل لعقائد وأيديولوجيات عميقة ودون أن يشعر بها المتلقى، خاصة عندما تتحول إلى صورة مبهرة فى السينما أو الدراما عامة، فتؤثر حينئذ فى أضعاف مضاعفة من الجمهور. وبالتالى لا بد من بذل المزيد من الجهد للوصول إلى الوسائل المبتكرة والحديثة بل وابتكار غيرها؛ مراعاة لحالة المنافسة تلك. ويرى د.يوسف: أن سمات العصر شديدة المادية تلك هى ما يجعل المداخل القلبية هامة، وربما تزيد فى بعض الأحيان، فالحياة القاسية تجعل الناس تتوق إلى من يخاطبها بما يرقق لها قلبها، لكن الأمر فى النهاية يخضع للتسديد والمقاربة بين خطاب العاطفة والرقة وبين الحديث بلغة الأدلة والعلم والعقل والفكر.