- لقد علَّمنا الحق تبارك وتعالى من خلال فاتحة الكتاب أن نتَّجه دائما إليه سبحانه، شاكرين عارفين فضله، فقال جلَّ شأنه يُربِّى عباده ويُعوِّدهم أن يقفوا على بابه، وأن يُكْثِروا من الوقوف، وأن يُرَدِّدوا فى صلاتهم وقبلها وبعدها قوله سبحانه: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة: 6، 7]. يقول الشَّهِيد سَيِّد قُطْب رحمه الله فى هذه الآيات: "وَفِّقْنا إلى معرفة الطريق المستقيم الواصل، وَفِّقْنا للاستقامة عليه بعد معرفته، فالمعرفة والاستقامة كلتاهما ثمرة لهداية الله ورعايته ورحمته، والتوجه فى هذا الأمر هو ثمرة الاعتقاد بأنه وحده المعين. وهذا الأمر هو أعظم وأول ما يطلب المؤمن من ربِّه العون فيه، فالهداية إلى قانون الله الذى يُنَسِّق بين حركة الإنسان وحركة الوجود كله فى الاتجاه إلى الله ربِّ العالمين. ويكشف عن طبيعة هذا الصراط المستقيم، فهو طريق الذين قسم لهم نعمته، لا طريق الذين غَضِب عليهم لمعرفتهم الحق ثمَّ بُعْدهم عنه، أو الذين ضلوا عن الحق فلم يهتدوا أصلا إليه.. إنه صراط السُّعداء المُهتدين الواصلين". - فالإقرار بالنعمة وشُكْر المُنْعِم ثمرة طيبة من ثمار الإيمان. واهب النعمة هو الله عز وجل "صلَّى ببعض أصدقائه فريضة الصُّبْح، وقرأ فى الركعة الأخيرة بعد فاتحة الكتاب سورة الضحى، ولما فرغ من صلاته وانتهى من دعائه، أقبل بوجهه عليهم، وقال: لقد تحدثت هذه السورة إلىّ ببعض الحديث الطيب الجميل، وكان من حديثها قوله تعالى: {وأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، معنى من معانى التوحيد، فيه عبرة وعظة، ولا أدرى إذا كانت نفحات هذا المعنى تطوف بجوانح بعض الناس حين يزعمون أنهم يتحدثون بفضل الله ونعمته عليهم، أو أنها ثرثرة لاستهلاك المجلس وقضاء الوقت؟ والمتبادر إلى الذهن من نعمة الله أنها خير هذه الأرض ومالها وثروتها، فأيّما رجل عنده فضل من هذه النعمة فليُحَدِّث به: يُحدِّث به نفسه، أو يُحدّث به الناس، أو يُحدِّثهما جميعا، فالحديث عنه يوصد أبواب الفتنة أن تتسرَّب إلى أغوار النفس، فتنسيها أو تطغيها، فليحدث أنه فضل الله وحده وكرمه ومنَّته، آتاه إياه بلا حول منه ولا قوة؛ إذ لا حول ولا قوة إلا بالله، فمشيئته تعالى هى التى خلقت هذه النعمة، وهى التى قضت بإيصالها إليه دون غيره، ولو قضى سبحانه أمرا آخر، لما وصل إليه شىء من هذا الفضل، ولكان من نصيب شخص آخر غيره، ليذكر فى الحديث هذا المعنى، وليقف طويلا عند هذه الإضافة التى تضيف النعمة إلى الله نعمة ربك، فإن التأمل فيها يمحق كل الأسباب الوهمية التى تُوهم النفس الضعيفة بأن هذه النعمة موصولة بمواهب المرء وملكاته ومهارته وخبرته، وحسن تصرفه.. يمحق كل تلك الأسباب الوهمية إلا سببا واحدا هو الحق؛ سبب صلتها بالله، نعم فليتأمل هذه الإضافة الكريمة، وما تفتحه من أبواب المعانى، فإنه سيرى صلة هذه النِّعَم بالله قوية رائعة ساطعة، ويرى الصِّلَة بينها وبين مواهبه وشخصيته خرافة عريقة.. هنا تنكشف الحقائق لعينه، عين نفسه لا عين رأسه، وحين تتجلى الحقائق للقلوب التى فى الصدور يأمن الإنسان الفتنة.. يأمن الفخر الكاذب، ويأمن مذلَّة التحدُّث عن ضروب الحيل والمهارة الشخصية، ومن ثم يأمن مذلَّة الشِّرْك الخفى حين يرى نفسه أو يرى مواهبه قوَّة فاعلة فى ملك الله تعالى، لها مشيئة مؤثرة هى التى جلبت له ما يرى، يأمن ذلك الشِّرْك الذى يُخْفِى عنه فضل الله وأثر مشيئته، ولا يظهر له إلا نفسه وموهبته، وصدق الله العظيم {واعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28]. نعم.. فليتأمل هذه الإضافة الدقيقة نعمة ربك فإن التأمل يزيل عنه الغفلة، ويوصد أبواب الفتنة، ويريه نفسه لا شىء، ويريه ربّه كل شىء، ويريه الوضع الحق فى هذه النعم، أنها فضل الله سبحانه المحض تفضَّل به وفق حكمته لا لِعِلَّة خارجية أثرت فى مشيئته.. لم يسبق إليه منا فضل فيجازينا عليه بهذه النعم، وليس لأحد عليه حق يوجب له مقال ذرَّة منها، وأنت تقرأ فى سورة الكهف مثل ذلك الذى فُتِنَ بجنَّتيه: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِى خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلا} [الكهف: 37]، ثم قال له: {ولَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ} [الكهف: 39]، فهذا الرجل الذى فتنه ماله يتلقَّى الحقيقة من فم صاحبه الفقير؛ إذ يُعلِّمه أنه فى هذا الوجود لا شىء، وأنه كان ترابا، ثم نُطْفة، فسوَّاه الله رجلا، وأن هذه النِّعَم محض فضل الله ومشيئته وحده، فإذا استقبلنا شيئا منها فلنقل (ما شاء الله لا قوة إلا بالله)، أى فلنستقبلها بشعور من يعلم أنها شىء ساقته مشيئة الله وإرادته المطلقة، وألا أثر فيه لقوّة بشر ما أو خلق ما؛ إذ لا قوة إلا به وحده سبحانه، حين يتأمل المرء فى نعمة ربه هذا التأمل، ويُحدِّث نفسه، ويحدث الناس بهذا الحديث، يَقِى نفسه الفتنة والغرور والخداع، ويكون حديثه طبًّا لقلوب كثير من الناس، يشفيها من عقارب الحسد، ويُوفِدها على الله بكثيرٍ من الرضا والطمأنينة؟ فلا يكون فتنة لنفسه ولا لغيره.. الآثار الاجتماعية ثم سكت قليلا مفكرا، فقال أحد الأصدقاء: لعلَّ مما يدخل فى فضل التحدث بنعمة الله على هذا النحو أن طبع الكزازة والبخل يبخل عن النفس، ويصبح المرء سمحا هينا، يجرى الخير من يديه إلى سواه فى رضا وإيثار: {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [الحشر: 9]، ولعل ذلك أيضا مما يؤدِّب النفس، ويجنِّب الغنى خِلال الطغيان والتجبُّر والاستعلاء فى الأرض بغير الحق.. إن المرء حين تسطع على نفسه شمس هذه الحقائق، يرى التوجه إلى غير الله فى طلب هذه النعم ضربا من الخبل، وضلّة العقل على ما فيه من شرك، وحمل للنفس على الضّعة والذلّة والصَّغار. فقال صاحبهم: وهو كذلك، ولكنه ليس هو التوحيد الذى يسفر ضوؤه من خلال كل حرف فى هذه الآية.. إنه ثمرة هذا التوحيد، وأثره الاجتماعى فى تنشئة الخلق، والاستقامة على منطق الفطرة الصادق العميق، ولكننى كنت أفكر فى أمر آخر، كنت أفكر فى ألوان أخرى من النِّعَم غير المال والثروة وكثرة العرض، كنت أفكر فى العلم وقوة البدن، وفصاحة اللسان والقلم وغيرهما من المواهب والملكات.. كل هذه مما يصدق عليه "نعمة ربك"، فكل من أنعم الله عليه بواحدة منها، عليه أن يؤدى حقَّها وشكرها بالتحدث عنها، هذا الحديث الذى يرفع الفضل فيها كله إلى الله؛ حتى لا يجد فى نفسه أى شعور بالامتياز، وإنك لترى الكثيرين من أهل الفضل يمشون على الأرض هونا، فإذا سمعوا ثناء على مواهبهم، أنكروا أن يكونوا كما أثنى الناس لشدَّة لُصُوقِهم بالله عز وجل، وعرفانهم لقدره، وتحققهم من افتقار أنفسهم وخلوِّها من كل فضل إلا أن يكون من لدنه سبحانه. تذكُّر النِّعَم حتى فى الذُّنُوب ولقد كنت قرأت لابن القيم كلاما أشار فيه إلى أن من صدق إقبال العبد على ربه أن يقبل عليه بجناحين، جناح النعم التى لم يُؤَدِّ شُكرها، وجناح الذنوب التى تُثْقِل ضميره وتثير وجدانه بالندم والألم، واستشهد لذلك بحديث سيِّد الاستغفار "اللهم أنت ربى لا إله إلا أنت، خلقتنى وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت" وهو كلام جميل، واستشهاد أجمل، ولست أدرى هل لى أن أقول فى هذا الكلام وفى هذا الحديث على ضوء ما يطالعنا من نور هذه الآية، إن من إفساد المرء لنعم الله أنه كلما أنعم عليه بواحدة منها جعل منها مادة لعصيانه وسببا لطغيانه، ففصاحة اللسان مثلا نعمة ما فى ذلك شك، والله يؤتى أنعمه لتكون مصابيح ترشد إليه وتهدى إلى سبيله، ولكن من شقاء المرء، أن يصرفها عما جُعِلَت له، وأسوأ ما تصرف إليه هذه النعمة -نعمة اللسان- إضلال خلق الله، وتزييف الحقائق عليهم، وأهون ما توضع فيه أن يدعو بها إلى الله، وهو مفتتن بها، ينتظر ثناء الناس عليه، وإعجابهم به. فأنت ترى أن من شقاء ابن آدم أنه لا يعصى الله إلا بنعمة أنعم بها عليه، فحين يستيقظ ضميره، وينكشف قناع قلبه، يهوله ما يرى... يهوله عن يمينه نِعَم لا تُحْصَى، ويهوله عن شماله فى مقابلها ذنوب استولدها منها بسوء رأيه، ويبدو له سيئات ما كسب، ويهتزّ وجدانه، وتنقبض نفسه، فلا يملك الفِرار من هول الجريمة، إلا أن يُقْبِل على الله كما هو: النِّعَم التى عصاه بها فى يمينه، والذنوب التى استولدها منها فى يساره؛ وذلك أشدّ ما ينكشف لذوى البصائر من مواقف الخطيئة، وهو فى الوقت ذاته موقف الإنابة الحق، والنَّدم الصادق؛ ولهذا أورده الرسول عليه الصلاة السلام فى حديث سيِّد الاستغفار. اللون المثالى للتحدث بنعم الله تعالى وبدهى أنه لم يَدُر بخلدى أن الرسول عليه الصلاة السلام استولد من نعم الله عليه ذنوبا، فحديث سيِّد الاستغفار بالنسبة لمقامه الشريف صلى الله عليه وسلم هو من قبيل اتهام النَّفس بالتقصير، واستقلال ما تُؤدِّى لله من حقوق، وقد درج الأكابر من سلف هذه الأمة على التأديب بهذا الأدب النبوى مع الله سبحانه، فكان أحدهم يغزو، وينفق من المال ما ينفق، ويُعلِّم الناس ويَعِظُهم، ويصوم النهار ويقوم الليل، فإذا خلا بنفسه بعد ذلك بكى، وقال: آه من قِلَّة الزَّاد، وبُعْد السفر، ووحشة الطريق. فشعوره عليه الصلاة والسلام بجلال نعم الله يصغر فى نفسه كل ما قدَّم بها من عمل، وأدى عليها من شكر... وجلال النِّعَم من جلال المُنْعم بها سبحانه وتعالى، فلا جرم أن بدا لبصيرته صلى الله عليه وسلم البون الشاسع بين جلال عمله، وجلال فضل ربه فأخذه من شدَّة الوجد، وصحوة الضمير ما جعله ينكسر إلى الله فى أدب العبودية الكامل "أبوء لك بنعمتك على، وأبوء بذنبى، فاغفر لى، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت". وقديما قيل: حقيقة الشكر أن تشعر بالعجز عنه، ولا سبيل إلى ذلك إلا أن يستعلن سرَّ الذات الإلهية فى وجدانك، وتمحق أوهام النفس الأمَّارة بالسوء فى حسبانك. هذا وَقْع نعم الله فى وجدان ذوى البصائر، وهذا شعورهم بعجز طاقاتهم البشرية عن الوفاء بحقها؛ حتى لتثور بأحدهم شبه التقصير فيبكى ويقول: "وَدِدْتُ لو أنى شجرة فى الفلاة يُعْضَد عضاها"، وهو ضرب رائع فذّ من التحديث بنعمة الله عز وجل، يستثير فى النفس طاقات العمل، ويمحق آفة الغرور، ويفزع بالمرء فى كل لحظة إلى ظلِّ مغفرة الله سبحانه. التحديث بالنعمة الكبرى وكل ما مضى مما يتصل بالتحدث عن نعمة الله يندرج فيه كافة أهل الإيمان، وأما بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم فهناك النعمة الكبرى والمِنَّة العظمى، النبوة والرسالة، وذلك شأن خاص به عليه الصلاة السلام، فلا يسمو بشر إلى التحديث بفضل هذه المنة سواه صلى الله عليه وسلم فهو الذى تلقى الوحى، وشافه السفير، وغَطَّه روح القدس، وشاهد فى عالم البشر ما رأى... ترى هل يسلك عليه الصلاة السلام فى التحديث عنها الوادى الذى شرعه لنا فى التحديث بالنعم الأخرى، أم أن لذلك مقاما أرفع، وواديا أوسع، وحالا أروع؟ مقام لا ينبغى لغير نَجِى الوحى، وصَفِى جبريل، ومن كُشِفَ له حجاب المعرفة، حتى رأى من آيات ربه الكبرى، ومدَّ له بساط الأُنْس حتى كان قاب قوسين أو أدنى صلى الله عليه وسلم صلاة دائمة واسعة، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.