جَبَلَ الله عز وجل عقول البشر على التنوع والتباين، فلكل إنسانٍ طريقته فى التفكير، ووسيلته فى تَصوُّر الأحكام والمواقف، وتبعا لهذا التنوع وذاك التباين ينشأ الخلاف بين عامة البشر. هذا من حيث الطبيعة البشرية أو الفطرة الإنسانية، ولكن أنزل الله تعالى دينه وشرعه حتى تضيق دائرة الاختلاف، ويجعل القلوب والنفوس تأتلف وتلتقى على كلمة سواء. سُنّة كونية وسُنّة شرعية: فإذا كان من طبيعة البشر الاختلاف والتنوع والتباين فى الأفكار والتصورات، كما قال الله تعالى: {ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إلا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118، 119]. وهى سُنّة كونية من الله تعالى فى خلقه، فإننا ندفع هذه السُنّة الكونية بالأمر الشرعى الإلهى بوجوب الائتلاف والاجتماع، قال الله تعالى: {وأَطِيعُوا اللَّهَ ورَسُولَهُ ولا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ رِيحُكُمْ واصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 46]، وقال جلّ جلاله: {ولا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: 105]. وهذه هى طبيعة التعامل والتفاعل بين ما هو من قدر الله وسنته فى الكون، وما هو من شرعه ودينه، فندفع القدر الإلهى بالأمر الشرعى، فندفع قدر استكبار الظالم بنصرة المظلوم، وندفع قدر المرض بالتداوى، وندفع قدر الاختلاف بالائتلاف. مجالات الاتفاق: ولأجل تضييق هُوّة الخلاف بين الأفراد قرَّر الشرع أن هناك دوائر أو مجالات لا يجوز الاختلاف حولها؛ لأنها من ثوابت هذا الدين ومرتكزاته، وتتمثل –إجمالا– فى القطعيات الشرعية، ويقصد بها ما كان قطعى الثبوت والدلالة، سواء أكان فى باب العقائد أو العبادات أو الأخلاق، فأركان الإيمان الستة، ووجوب الصلوات الخمس، وصوم رمضان، وفرضية الزكاة إجمالا، وحرمة الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وفضيلة الصدق والأمانة والمروءة والشهامة، أو رذيلة الكذب والخيانة، وغيرها من سيئ الأخلاق، كل هذا من القطعيات الشرعية التى لا يجوز الاختلاف حولها. مجالات الاختلاف: أما غير ما هو قطعى فى الشرع فالاختلاف فيه واسع، وتنوع الأفكار والتصورات فيه وارد، وأكثر ما يكون هذا الاختلاف فى "الفروع الفقهية"؛ وذلك لأن النصوص فيه –أى الفروع الفقهية– إما أن تكون ظنية الثبوت أو ظنية الدلالة، وهو مجال رَحْب لأنْ يُعْمِلَ كلُّ عالمٍ ومتخصصٍ فيه عقلَه وفق ضوابط خاصة حتى لا يحصل الشطط والانحراف. الخلاف الفقهى رحمة: قاعدة أطلقها علماؤنا على مدار تاريخ هذه الأمة أن: "إجماعهم حجة قاطعة واختلافهم رحمة واسعة"، وهى قاعدة مبنية على استقراء نصوص الشرع، وفهم مقاصده وإدراك ما جرى بين الصحابة ومن تبعهم من اتفاق واجتماع، وائتلاف واختلاف، فما أجمع عليه العلماء لا يجوز خلافهم فيه، وما اختلفوا فيه فالأنظار فيه متفاوتة، ويجوز لكل فرد أن يختار منها ما ينفذه عمليا، كما قال الإمام النووى: "المختلف فيه لا إنكار فيه"، وفى هذا رحمة واسعة كما قال عون بن عبد الله التابعى الجليل وأحد فقهاء المدينة السبعة: "ما أحب أن أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا فإنهم لو اجتمعوا على شىء فتركه رجل ترك السنة، ولو اختلفوا فأخذ رجل بقول أحدهم أخذ بالسنة". فاختلاف الآراء هنا فيه باب لحرية اختيارِ كلٍّ بما يناسب ظروفه وأحواله، فقد يناسب هذا الرأى ما لا يناسب الآخر، ويختلف هذا التناسب باختلاف الشخص والحال والزمان والمكان، ولا يخفى أن هذا الاختيار إنما يكون فى إطاره وضوابطه المقررة. تفاعل العقل والقلب: الاختلاف الفقهى هو مجال عمل العقل، أما الحب والبغض فهو مجال عمل القلب، وعلى هذا فلا ينبغى أن يؤدى اختلاف العقول إلى اختلاف القلوب؛ وذلك لأن اختلاف العقول فى مجاله مُقَرَّر ومقبولٌ شرعا، بل إن المجتهد فى الفقهيات –وإن أخطأ– فهو مأجور غير مأزور، فعن عمرو بن العاص رضى الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا حَكَمَ الحَاكِمُ فاجتهدَ ثمَّ أصابَ فله أجْران، وإذا حكم فاجتهدَ ثم أخطأَ فلهُ أجْر" (رواه البخارى، الحديث 6805). "ولكل مجتهد أجره"، أما اختلاف القلوب من أجل الاختلاف فى الفقه فمنهىّ عنه شرعا، بل إن اجتماع الكلمة وتوحيد الصفوف هو أصل من أصول هذا الدين، قال الله تعالى: {واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إخْوَانًا وكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران: 103]، وقال سبحانه: {إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِى سَبِيلِهِ صَفًا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف: 4]، والآيات فى هذا كثيرة، أما فى السنة، فعن النعمان بن بشير رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ المؤمنين فى توادِّهِم وتراحُمِهِم وتعاطُفِهِم مثل الجسد إذا اشتكى منه عُضوٌ تَدَاعى لهُ سَائرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ والحُمَّى" (رواه مسلم، الحديث 4685). الخلاف المذموم يهدم الإسلام: فثبت مما سبق أن [الخلاف الفقهى فى الفروع لا يكون سببا للتفرق فى الدين، ولا يؤدى إلى خصومة وبغضاء]، فإذا ما أدَّى هذا الخلاف إلى الشحناء والبغضاء فإن سببه هنا يكون فى التواء النفوس، وبُعدها عن جادّة الصواب، وظهور مثل هذه المواقف والسلوكيات الذميمة دليل على مرض فى النفس يحتاج إلى مجاهدة لاستئصاله أو علاجه، وإليه يشير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ طَلبَ العِلْمَ لِيُجَارِى بِهِ العُلماءَ أوْ ليُمارِى بهِ السُّفهَاءَ أوْ يَصْرِفَ بهِ وُجُوهَ النَّاسِ إليهِ أَدخلَهُ اللهُ النَّارَ" (رواه الترمذى، الحديث 2578). فهذا الرجل يتخذ من العلم واختلاف الفقهاء ما يحقق به أغراضه من: مجاراة العلماء ومباهاتهم، ومجاراة السفهاء، وصرف وجوه الناس إليه، والأخذ من الأمراء. وهذه أمراض إذا وُجدت فى نفس مسلم هدمت الإسلام، فعن زياد بن حدير قال: قال لى عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام؟ قلت: لا، قال: "يهدمه زلّة العالم وجدال المنافق بالكتاب وحكم الأئمة المضلين" (رواه الدرامى، الحديث 216). فى ظلال المحبة: لكن هل هذا الخوف من التفرق والشقاق بسبب الاختلافات الفقهية لا يجعلنا نتحاور ونتناقش ونتشاور فى مثل هذه المسائل العلمية؟ والإجابة أنه بعد تقرير هذه القواعد التى تحدثنا عنها من ضرورة الاختلاف الفقهى، ووجوب اتفاق القلوب وائتلافها، والبُعْد عن أغراض الهوى والنفس، إذا تقرر هذا وتحقق فإنه "لا مانع من التحقيق العلمى النزيه فى مسائل الخلاف فى ظل الحب فى الله، والتعاون على الوصول إلى الحقيقة من غير أن يجرّ ذلك إلى المراء المذموم"، كما ذكر ذلك الإمام البنَّا فى رسالة التعاليم الأصل السادس عشر، ولنا فى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة فى التحقيق العلمى النزيه فى ظل الحب فى الله تعالى. - التزام وعمل: هيا نلزم أنفسنا ب: - عدم تغير القلب تجاه صاحب رأى فى أمرٍ اجتهادى، المخطئ فيه مأجور. - استئصال الخصومة والبغضاء بسبب الخلاف الفقهى فى الفروع. - ترك المراء عند النقاش من أجل الوصول إلى الحقيقة فى مسائل الخلاف.