لا شك أن هوّة الخلاف قد اتسعت بشكل واضح بين الفصائل المختلفة سواء الدينية أو السياسية أو الفكرية، والكارثة أن كلاً منا يعتقد أنه وحده على حق، والآخرين على باطل، لذا فلنحاول أن نضع تصوراً لقواعد الاختلاف قبل أن نختلف، وذلك من أجل أن نجمع ولا نفرق، ولنراجع الركائز الفكرية والأخلاقية العديدة التى يقوم عليها فقه وأدب الاختلاف، والتى لا تخفى على أهل التخصص من العلماء والمفكرين والباحثين، وتتلخص فى: أولاً: الإخلاص لله وحده، والتجرد للحق، ومجاهدة النفس حتى تتحرر من اتباع هواها؛ فكثيراً ما تكون الخلافات بين الأفراد والفئات ظاهرها أنها خلاف على مسائل فى العلم أو قضايا فى الفكر أو الدين، وباطنها حب الذات وحب الظهور أو الجاه، وتحقيق المغانم واتباع الهوى، لذا ينبغى أن نتخلص من التعصب والتحزب الذى له مظاهر كثيرة كالتمسك بالمذهب أو الجماعة أو الشيخ أو القبيلة أو الطريقة أو المنهج أو حتى النادى، فحالة المتعصب يصعب معها الإقناع. ثانياً: عدم الانتقال من مناقشة محور الموضوع إلى كيل التهم جزافاً، والطعن فى ذات المنتقِد، فى دينه وعرضه ونسبه، مما يزيد من تعقيد الأمور وازدياد الفرقة والتنافر. ثالثاً: اجتناب ضعف الفهم، وسوء الظن،، وينبغى ألا نتسرع فى الحكم قبل الفحص والتيقن. رابعاً: الوعى بأن الاختلاف والتنوع فى فهم الأحكام الشرعية الفرعية ضرورة لا بد منها أوجبتها طبيعة الدين، وطبيعة اللغة، وطبيعة البشر، وطبيعة الكون والحياة. لكى يوسع الله الأمر على عباده، لذا فقد اجتهد الصحابة والأئمة -رضى الله عنهم- واختلفوا فى أمور جزئية كثيرة، ولم يضيقوا ذرعاً بذلك، وأتاحوا لنا باختلافهم هذا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم. خامساً: اتباع المنهج الوسط الذى يتجلى فيه التوازن والاعتدال بعيداً عن الغلو أو التفريط. فهذه الأمة أمة وسط فى كل شىء، ودين الله بين المغالى فيه والبعيد عنه، ومن لوازم الوسطية اجتناب التنطع فى الدين، وهو ما أنذر النبى صلى الله عليه وسلم أصحابه بالهلاك فى قوله: «هلك المتنطعون» رواه مسلم، قالها ثلاثاً. والمتنطعون - كما يقول الإمام النووى: المضيقون المغالون المجاوزون الحدود فى أقوالهم وأفعالهم. سادساً: اجتناب القطع فى المسائل الاجتهادية التى تحتمل وجهين أو رأيين أو أكثر، واجتناب الإنكار فيها على الآخرين، لذا قرر علماء الإسلام: أنه لا إنكار من أحد على أحد فى المسائل الاجتهادية. سابعاً: تحديد المفاهيم التى يقع فيها النزاع، وبيان مدلولها بدقة ووضوح، مما يرفع عنها الغموض والاشتباه؛ فكثيراً ما يحتد النزاع حول معنى أو مفهوم معين، لو تم تحديده بدقة وشرحه بجلاء لأمكن للطرفين أن يلتقيا عند حل وسط. ثامناً: التعاون بين أصحاب المذاهب الفقهية والمدارس الفكرية المختلفة فيما اتفقوا عليه، وأن يعذر بعضهم بعضاً فيما يسع الخلاف فيه. وهذا التسامح المنشود يقوم على احترام الرأى المخالف، وتقدير وجهات نظر المخالفين، والاعتقاد بإمكان تعدد أوجه الصواب فى المسألة الواحدة المختلف فيها، وذلك تبعاً لتغير المكان والزمان، والظروف والأحوال. تاسعاً: اجتناب التكفير بلا مسوغ صحيح للكفر والحذر منه؛ فأخطر أدوات التدمير لبنيان وحدة الأمة، أو التقارب بين العاملين فى حقل الدعوة إلى الله هو التكفير؛ وذلك بأن تُخرج مسلماً من الملّة، وتحكم عليه بالكفر والردة. وقد حذر الإسلام من ذلك، لقول النبى صلى الله عليه وسلم: «إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما؛ فإن كان كما قال، وإلا رجعت عليه» رواه مسلم والبخارى. لذا فلا يجوز تكفير أهل الإسلام لذنوب ارتكبوها أو أخطاء اقترفوها حتى لو كانت من الكبائر. عاشراً: لا ينبغى أن يقيد المرء نفسه إلا بالدليل الشرعى والمنطقى والعقلى، فإذا وضح له الدليل بادر بالانقياد له، حتى إن كان ذلك على خلاف المذهب الذى يعتنقه، أو الإمام الذى يتبعه، أو الطائفة أو الحزب الذى ينتمى إليه؛ فالحق أحق أن يتبع، ويعرف الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال. حادى عشر: إحسان الظن بالآخرين، وخلع المنظار الأسود عند النظر إلى أعمالهم ومواقفهم؛ فلا ينبغى أن يكون سلوك المؤمن واتجاهه قائماً على تزكية نفسه واتهام غيره والانتقاص منه، ويقول عز وجل: «فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى» [النجم: 32]. ثانى عشر: الحوار بالحسنى، واجتناب الجدل والمراء والفُجر فى الخصومة ؛ فالإسلام -وإن أمر بالجدال بالتى هى أحسن- ذم المراء الذى يراد به الغلبة على المخالف بأى طريق، دون التزام بمنطق ولا خضوع لميزانٍ حاكم بين الطرفين «وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» [الأنفال: 46]، وفى الحديث الشريف: «إذا غضب الله على قوم أورثهم الجدل»، ولقد حذرنا الله تعالى من السقوط فى علل أهل الأديان السابقة، فقال: «وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُم وَكَانُوا شِيَعَاً كُلُّ حِزبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ» [الروم: 31 و32]، واعتبر الاختلاف الذى يسبب الافتراق والتمزق ابتعاداً عن أى هدى للنبوة أو انتساب لرسولها الكريم صلى الله عليه وسلم حين قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعَاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِى شَىْءٍ» [الأنعام: 159]. لقد اختلف الصحابة ومن بعدهم السلف الصالح، رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم فى الرأى لم يكن سبباً لافتراقهم، ولنستمع إلى قوله تعالى «وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» [الأنفال: 46].