إذا كنت ممن استمتع بقراءة رواية "مائة عام من العزلة"، أو كنت تعشق أن تحلق مع روائع "جابرييل ماركيز"، أو لعلك ممن يهوى مطالعة الجديد ل"بهاء طاهر" و"علاء الأسوانى"، فأنا أدعوك بثقة إلى اكتشاف عالم جديد من الروايات سوف تدمنه مع قراءة أولى صفحات كتب بطلنا اليوم، أما إذا كنت تنظر باستخفاف إلى الروايات وتعتبرها تضييعا للوقت فأنا أيضا أدعوك لتطالع نموذجا مختلفا لكاتب استطاع تحويل الرواية من مجرد حكاية.. إلى رسالة وأسلوب حياة. "إنه منظّر الأدب الإسلامى الآن"... شهادة سجلها الأديب العالمى "نجيب محفوظ" فى مجلة "المصور" عام 1989، ليشهد بجدارة بأحقية "نجيب الكيلانى" فى أن يحصل على لقب رائد الأدب الإسلامى، فهو الذى استطاع أن يغير من مفهوم الأدب الإسلامى بمعناه الضيق، ليتسع ويشمل كل مشكلات المجتمعات المسلمة فى العالم، حيث عبر عنها بصدق وظل مرتبطًا بوجدان القارئ وعقله، ليقدم لنا النموذج الرائع للفن الإسلامى الذى لا يختار نماذجه من أمثلة الخير والحب والفضيلة وحدها، بل يقدم شتى النماذج خيرها وشرها، كما استطاع معالجة قضية الجنس فى الروايات، فى إطار من الذوق الرفيع، على أن تكون المعالجة كمعالجة القرآن لقصة يوسف وامرأة العزيز، دون ابتذال أو إثارة لمشاعر. تحل بعد أيام الذكرى الثامنة عشرة لرحيله عن دنيانا، وهو الذى ولد عام 1931، وحقق أمنية حياته من خلال التحاقه بكلية الطب جامعة القاهرة، ولكنه اعتقل فى السنة النهائية بالكلية سنة 1955 بتهمة جمع تبرعات لمساعدة أسر المعتقلين من الإخوان المسلمين، وحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ثم أفرج عنه فى منتصف عام 1959 بعفو صحى، فعاد إلى الكلية وتخرّج طبيبا، وعمل بالمستشفيات المصرية، حتى أعيد اعتقاله مرة أخرى سنة 1965، ولكن اليأس لم يعرف طريقا لقلب "الكيلانى" فاستغل فترة وجوده بالسجن ونظم عددا من القصائد وأصدر ديوانه الأول "أغانى الغرباء"، وفى السجن أيضا ترامى لمسامعه أنباء عن مسابقة فى الرواية تقيمها وزارة الثقافة، فكتب روايته الأولى "الطريق الطويل" فى فترة لا تزيد على ثلاثة أسابيع، وبسببها حصل على الجائزة الأولى فى المسابقة، حيث كان الرئيس السابق جمال عبد الناصر قد أخرجه من المعتقل ليتسلّم الجائزة ثم يعود إلى المعتقل فى اليوم نفسه، وكانت المفارقة أنه تم تدريس الرواية مقررا على طلبة الثانوية لاحقا. يعتبر "نجيب الكيلانى" فى مقدمة الأدباء المعاصرين من حيث غزارة الإنتاج وتنوعه، وهو بذلك يتفوق على "نجيب محفوظ" فى عدد رواياته، فقد كتب أكثر من سبعين كتابا فى غاية الإتقان الفنى والأدبى، ووجدت هذه المؤلفات قبولا عند القارئ العربى وترجمت إلى العديد من اللغات، وهو الأديب الوحيد الذى خرج بالرواية خارج حدود بلده، وطاف بها ومعها بلدانا أخرى كثيرة، متفاعلا مع بيئاتها المختلفة، فكان مع ثوار نيجيريا فى "عمالقة الشمال"، ومع إمبراطور إثيوبيا "هيلاسلاسى" فى "الظل الأسود"، ودمشق فى "دم لفطير صهيون"، وفى فلسطين مع "عمر يظهر فى القدس"، وإندونيسيا فى "عذراء جاكرتا"، ثم رحل بنا مع "ليالى تركستان" التى تنبأ فيها بسقوط الشيوعية منذ أكثر من ثلاثين عاما. وفى كل هذه الروايات ضرب لنا النموذج كروائى يؤرخ لمعظم الأقطار الإسلامية وهو مستقر بمكانه معتمدًا على ما توافر لديه من دراسات تاريخية ووثائق مسجلة، ثم يعمل على تطويرها روائيا بكل ما أوتى من ملكات الإبداع والتميز. حصل "الكيلانى" خلال مسيرته على تسع جوائز محلية ودولية، وتحولت بعض أعماله الروائية إلى أعمال فنية، حيث فاز فيلم "ليل وقضبان" عن روايته "ليل العبيد" بالجائزة الأولى لمهرجان "طشقند" السينمائى عام 1964، كما تحولت رواية "الليل الموعود" إلى مسلسل إذاعى وتليفزيونى قدّم فى شهر رمضان باسم "ياقوتة ملحمة الحب والسلام" عام 1973. ولا بد من الإشارة إلى أن معظم رواياته كانت مستوحاة من البيئة المصرية ومجتمع الفلاحين البسطاء والتى ختمها بروايات "اعترافات عبد المتجلى"، و"أقوال أبو الفتوح الشرقاوى" وكان آخر ما كتب رائعته "ملكة العنب". وكأن الله تعالى قد أراد له مزيدا من الابتلاء، ولكن هذه المرة بالمرض، وهو الأمر الذى تحمله "الكيلانى" دون أن يبث همه وألمه لأحد حتى أقرب الناس إليه، فقد صبر على آلام مرض الكبد ثم آلام السرطان، مستمسكًا بحبل الله.. وأنّى له أن ييأس أو يشتكى وهو الراضى بقضائه أيًّا كان. ولم يجد خلال فترة مرضه من يوفر له مصاريف العلاج باستثناء العاهل السعودى، الذى أمر بعلاجه على نفقته بالمستشفيات السعودية، حتى كتب الله له الوفاة فى العام 1995 بعد صراع طويل مع المرض. إذا كان اسم "نجيب محفوظ" سيظل محفورا فى ذاكرة الناس بحصوله على جائزة نوبل للآداب، فإن "نجيب الكيلانى" سيبقى غائبا عن العقول؛ ولكنه سيبقى محاطًا بالاحترام لكل من عرف اسمه أو قرأ له حتى وإن قل عددهم، فهو رجل وظف نفسه لخدمة دينه فى ربوع الدنيا كلها، وكانت قصصه ورواياته ومسرحياته وشعره وأدبه، بل مهنته الطبية كلها فى سبيل هذا الهدف الكبير والغاية العظمى التى عاش ومات من أجلها.