ذكرنا فى المرة السابقة أن من أهم صفات الجيل الذى سيحقق الله على يديه النصر والتمكين لدينه: أنه جيل يحب الله حبا يزيد على كل المحاب، ويظهر أثر ذلك الحب على سلوكه فتراه مبادرا لكل ما يحبه منه ربه، منيبا إليه، معتذرا عن خطئه، كثير الحديث والمناجاة معه، شاكرا لأنعمه، صابرا على أقداره، يحب رسوله صلى الله عليه وسلم ويطيعه، ويحب عباده لحبه إياه سبحانه.. ومن ضمن العلامات التى تظهر على المحب الصادق لله رب العالمين: حب القرآن: فمن يحب الله حبًّا صادقًا من البديهى أن يحب كلامه ويلتذ به، ويُكثر من قراءته، والاستماع إليه وفهم المراد به. قال ابن مسعود –رضى الله عنه– لا يسأل أحدكم عن نفسه إلا القرآن فمن أحب القرآن فهو يحب الله ورسوله. إن كنت تزعم حبي لم هجرت كتابي أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي ومن علامات حب الله: كثرة ذكره: فالمحب يُكثر من ذكر محبوبه، لذلك ترى لسانه دومًا رطبًا بذكر الله فهو لقلبه كالماء للسمك قال صلى الله عليه وسلم: (مثل الذى يذكر ربه والذى لا يذكر ربه مثل الحى والميت) [البخاري]. ومن علامات حب الله: دعوة الناس إلى الله، وتحبيبهم فيه ودلالتهم عليه، قال أبو الدرداء: لما أهبط الله آدم إلى الأرض قال له: يا آدم أحبنى وحببنى إلى خلقى. ومنها الغضب لله: والغيرة عليه إذا ما انتهكت محارمه، وعُطِّل شرعه، ونُحَّى كتابه. ومنها حب الجهاد والشهادة فى سبيل الله: فالجهاد فى سبيل الله هو بذل الجهد والطاقة من أجل رضا الله عز وجل، أما الشهادة فهى تعد بمثابة أكبر دليل على أن حبه سبحانه أحب للعبد من كل شىء. وقد امتلأت قلوب الصحابة بحب الله، وظهرت آثار ذلك الحب فى سلوكهم، وتجلت بوضوح عند تعارضها مع المحاب الأخرى. ولقد تعارضت هذه المحبة مع محبة الآباء والأبناء والإخوان وذلك فى معركة بدر فماذا حدث؟! لقد قتل أبو عبيدة رضى الله عنه أباه المشرك حين لاقاه فى المعركة، وهمَّ أبو بكر الصديق رضى الله عنه بقتل ابنه عبد الرحمن، أما مصعب بن عمير رضى الله عنه فقد قتل أخاه عبيد بن عمير، وعمر بن الخطاب رضى الله عنه قتل قريبًا له، و.... وفيهم نزل قوله تعالى: ?لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِى اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا أن حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ? (المجادلة:22). وتجلى تمكن حب الله فى قلوب الصحابة عند الهجرة من مكة إلى المدينة، فلقد ترك المهاجرون أموالهم وديارهم وهاجروا فرارًا بدينهم وامتثالًا لأوامر رسولهم صلى الله عليه وسلم، كل ذلك ما كان ليحدث لو لم يكن حب الله عز وجل مهيمنًا على قلوبهم. عن الزبير رضى الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا بقُباء ومعه نفر، فقام مصعب بن عمير رضى الله عنه، عليه بُردة ما تكاد تواريه، ونكَّس القوم، فجاء فسلَّم فردوا عليه، فقال فيه النبى صلى الله عليه وسلم خيرًا وأثنى عليه، ثم قال: (لقد رأيت هذا عند أبويه بمكة يكرمانه وينعمانه، وما فتى من فتيان قريش مثله، ثم خرج من ذلك ابتغاء مرضاة الله ونصرة رسوله..) [أخرجه الحاكم]. أما حبهم للرسول صلى الله عليه وسلم، فالأمثلة كثيرة.. أخرج الطبرانى عن عروة ابن الزبير أن المشركين الذين قتلوا خبيب بن عدى رضى الله عنه نادوه قبل قتله وهو مصلوب: أتحب أن محمدًا مكانك؟ فقال: لا والله العظيم! ما أحب أن يفدينى بشوكة يشاكها فى قدمه. أما سرعة مبادرتهم للجهاد فى سبيل الله فإليك ما فعله حنظلة رضى الله عنه، فحينما استشهد فى أحد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحبكم حنظلة لتغسله الملائكة فأسالوا أهله ما شأنه) فسُئلت صاحبته (زوجته)، فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لذلك غسلته الملائكة) [حلية الأولياء]. أما حبهم للشهادة فلا تسل عنه، فلقد كانوا يسابقون إليها تسابقًا عجيبًا، فهذا عمر بن الخطاب رضى الله عنه يقول لأخيه يوم أحد: خذ درعى يا أخى. قال: أريد الشهادة مثل الذى تريد، فتركاها جميعًا. وهذا عبد الله بن جحش رضى الله عنه يدعو الله قبل معركة أحد فيقول: اللهم إنى أقسم عليك أن ألقى العدو غدًا، فيقتلنى، ثم يبقروا بطنى، ويجدعوا أنفى وأذنى، ثم تسألنى بم ذالك؟ فأقول: فيك. أما معاذ بن جبل رضى الله عنه فأمره عجيب فى حبه لربه، فعندما اشتد به النزع بعد إصابته بالطاعون كان كلما أفاق فتح طوقْه ثم قال: اخنقنى خنقك، فوعزتك إنك لتعلم أن قلبى يحبك.