جاءت نتيجة الاستفتاء على الدستور الجديد والموافقة ب"نعم" من أبناء الصعيد من الجيزة إلى أسوان، وبنسبة تفوق 82%، لتكشف بوضوح الدور السياسى الذى بدا ينمو ويتزايد بعد الثورة من أبناء الصعيد فى المشاركة الإيجابية والفاعلة فى الحياة السياسية، بل يكون "الصعايدة رمانة الميزان" فى الترجيح وإقرار الدستور أو فى فوز الدكتور محمد مرسى برئاسة الجمهورية، كأول رئيس مدنى منتخب انتخابا حرا مباشرا من الشعب فى تاريخ مصر كله، وإذا كانت قوى المعارضة التى ناصبت "الدستور الجديد" العداء ورمته بكل نقيصة، وأهالت عليه التراب، ووصمت أعضاء الجمعية التأسيسية بكل النعوت والصفات السيئة، راهنت على محافظات بعينها فى الوجه البحرى والقاهرة لرفض الدستور، إلا أنها لم تضع فى حسبانها أن "الصعيد سيحسم" النتيجة وبقوة، لأنهم لا يعرفون عن الصعيد شيئا، ولم يضعوه يوما فى حساباتهم السياسية ولم ينشغلوا بأهله ولا معاناتهم ولا مشكلاتهم. فأهل الصعيد محافظون بطبعهم، ومع الاستقرار والشريعة والشرعية، ويعرفون جيدا الصادق من الكاذب، والأصيل من المزيف، ومن يلعب ويناور ويخادع ويستنجد بالأجنبى ضد وطنه، ومن يثق بالله عز وجل ونصرته وفى مصر والمصريين. ويدرك الصعايدة بحسهم وذكائهم الفطرى كذب أصحاب الشعارات الجوفاء، لذلك لم يتأثروا بالدعايات الفجة والإعلام الموجه ليل نهار عبر فضائيات الفلول والمال الطائفى الذى شن حملة إعلامية وسياسية ممنهجة ضد الدستور، وشاهد أبناء الصعيد الحشد الطائفى أمام اللجان، فكان الرد بقوة عبر الصناديق ب"نعم"، الذى وصل فى الفيوم إلى 89%، وبنى سويف 85%، والمنيا 83%، والوادى الجديد 87%، وقنا 85%، وسوهاج 78%، وأسيوط 76%، والجيزة 66%، والأقصر 77%، والبحر الأحمر 63%. والصعيد معروف فيه القبلية والتماسك الأسرى والعائلى، وأنه موطن القوى والحركات والجماعات الإسلامية والأشراف والأزاهرة والعلماء والمفكرين والأدباء والشعراء والنوابغ فى شتى العلوم، والوجه القبلى كتلة تصويتية صلبة متماسكة، يصعب اختراقها من أى تيارات وافدة أو خارجية أو غريبة عن نسيج أهل الصعيد، وكما يقول د. عبد الخبير عطا -أستاذ العلوم السياسية بجامعة أسيوط-: "كأن هناك حكمة بالغة فى تسمية الصعيد بهذا الاسم، الذى يعنى المكان المرتفع، فقد كان دائما الصعيد يحتفظ بمكانته المرتفعة عبر التاريخ، فهو طابعه الأساسى والأصيل، وهذا الدور لأبناء الصعيد ليس وليد اللحظة بل يمتد عبر التاريخ الطويل". وتوضح دلالات الأرقام والإحصاءات، سواء فى الاستفتاءات على الدستور أو فى انتخابات البرلمان والرئاسة بعد الثورة بمحافظات الصعيد بعد الثورة أن الصعايدة قادمون بقوة، وسيكون لهم اليد الطولى فى تغيير الخريطة السياسية وإعادة تشكيلها من جديد، والقوة الضاغطة على صناعة القرار للنظر إليهم وإلى أحوالهم، ورفع الغبن الذى مورس عليهم طوال ستة عقود من الزمان. لقد عانى أبناء الصعيد وقراهم ومدنهم ومحافظاتهم من حيف وظلم عظيمين فى جميع المجالات، فلا خدمات ولا بنية تحتية، ولا مشروعات تساهم فى تنمية الوجه القبلى، ولا توظيف للشباب، فالسواد الأعظم بل جميع القرى فى الصعيد لم يدخلها الصرف الصحى، وليس بها مراكز الرعاية الصحية الأولية، ومعظمها لم تصلها المياه الصالحة للشرب، وتفتقر إلى الخدمات التعليمية والاجتماعية، وليس بها مراكز أو نقاط للشرطة لحفظ الأمن، ولا مواصلات عامة لخدمة أبنائها، فقد توقفت أتوبيسات النقل فى الوجه القبلى عن العمل بين القرى، وصار الاعتماد على السيارات المكشوفة التى يشحن فيها البشر مع الحيوانات فى وضع مزر لا يليق بالبشر. أما عن أحوال المدن فى جميع محافظات الصعيد فحدث ولا حرج عن سوء الخدمات المحلية، والشوارع المتهالكة، والمستشفيات التى صارت مجرد هياكل مبان لا تقدم دواء ولا شفاء، بل تزيد المريض الذى يدخلها مرضا، وأصبحت مجالس المدن مرتعا للفاسدين واللصوص والمرتشين، وأية خدمة تطلبها عليك أن تدفع أولا للموظف المسئول أو رئيسه، لتحصل على بطاقة الرقم القومى أو تستخرج جواز سفر أو رخصة قيادة أو تصريح مبان، وكذلك الجمعيات الزراعية وبنوك التنمية التى تتاجر فى الفلاحين بالقروض وفوائدها المجحفة، فيضطروا إلى بيع أو رهن أرضهم وديارهم لتسديدها، حتى السماد والمبيدات الزراعية التى كانت تصرف للمزارعين اختفت، وأصبحت تباع فى السوق السوداء بأضعاف الأثمان. الآن آن الأوان للاهتمام بالوجه القبلى وأبناء الصعيد، وأن يأخذوا حقوقهم كمواطنين، شأنهم شأن غيرهم فى الخدمات والتوظيف والعملية التنموية، الآلاف من شباب الصعيد من خريجى الجامعات والمعاهد العليا يهيمون على وجوههم فى المدن الجديدة بالقاهرة بحثا عن عمل مهما كان نوعه، للإنفاق على أسرهم، والآلاف منهم ذهبوا إلى الغردقة والمدن الساحلية للعمل بعد أن ضاقت بهم الدنيا وصاروا عاطلين سنوات طويلة، ومنهم من جرى وراء السفر إلى الخارج واضطر والده إلى بيع ما يملك ليدبر له ثمن تأشيرة "حرة" إلى دول الخليج لا يعرف هل سيسدد ابنه ثمنها أم لا؟ وضاعت أعمار أجيال من أبناء الصعيد هدرا بسبب الإهمال الذى مورس عليهم. بل إن النظام القمعى الأمنى فى عهد المخلوع الذى استغل حوادث العنف فى مدن المنياوأسيوط وسوهاج وبنى سويف فى التنكيل بالأسر وعوائلها، فكم من الآباء اعتقلوا ظلما وزورا وتعرضوا لأبشع ألوان التعذيب والقهر سنوات طويلة، وكم من الشباب الغض قتلوا ودفنوا فى مزارع القصب وأخفيت جثثهم بواسطة العمد وضباط الشرطة تحت إشراف مباحث أمن الدولة، وكم من مزارع قصب وذرة تم حرقها من قبل الأمن لأن بها "إرهابيين" ولم يعوض أصحابها، لقد اطلعت على عشرات القصص لأسر صعيدية دفعت الثمن غاليا دون ذنب أو جريرة، فاعتقل أبناؤها وشرد عائلها وانتهكت حرمات بيوتهم، وصودرت أموالهم، ورأيت شبابا أصيبوا بأمراض فتاكة وهم فى مقتبل العمر، ولم يجدوا ثمن الدواء، وأعرف قصصا لأسر عريقة اضطرت إلى بيع بيوت وأراض لتسديد الديون المتراكمة من فوائد "بنك الخراب" -التنمية- كما يطلق عليها الفلاحون. آن الأوان للنظر إلى الصعيد وأهله والاهتمام بهم ووضعهم على خريطة التنمية، وكفى ما حاق بهم من ظلم طوال السنين التى خلت، احذروا "صبر الصعايدة طال".