قبل الانتخابات الرئاسية كنت مدعواً لتحليل المشهد فى إحدى الفضائيات المشهورة، وكان معى ضيفان كريمان متخصصان فى العلوم السياسية، فطرح أحدهما فكرة تأثير الصعيد على ترجيح كفة أحد المرشحين المحسوبين على النظام السابقينن إما عمرو موسى أو أحمد شفيق نظراً لقوة الفلول بالصعيد وسيادة نمط اجتماعى أقرب إلى النمط القبلى، مما سيسهل توجيه الأصوات صوب أحد المرشحين السابقين فكان ردى عليه أن هذا الكلام غير صحيح لأن الصعيد ليس مأوى للفلول، كما يظن كثيرون بل هو معقل أصيل للحركة الإسلامية منذ سبعينيات القرن الماضى وهذه نقطة يغفلها كثيرون وقلت أيضاً حينها: إن العائلات الكبرى هناك كما يوجد بها منتمون للحزب الوطنى المنحل فبها أيضاً كثيرون منتمون للحركة الإسلامية وأن ارتباط هذه العائلات بالحزب الوطنى لم يكن ارتباطا أيديولوجيا بقدر ما هو ارتباط مصالح بدليل أن هذه العائلات ارتبطت قبل ثورة يوليو بحزب الوفد ثم يممت وجهها شطر الاتحاد الاشتراكى وأخيرًا حطت رحالها فى الحزب الوطنى فهو ارتباط بممثل السلطة ليس أكثر لضمان مصالحها الخاصة وتحقيق الوجاهة الاجتماعية اللازمة فى البيئة الصعيدية. وبعد جولة الانتخابات الرئاسية الأولى والثانية فوجئ الجميع أن صعيد مصر كان سبباً قوياً لفوز د.مرسى بعد أن منحه أصواته وحقق له الفارق المطلوب فى حين لم تتمكن محافظات كبرى فى الوجه البحرى كانت تصنف كمعاقل تقليدية للتيار الإسلامى من تحقيق ذات النتيجة. وللأسف مرت تلك الدلالات حينها مرور الكرام ولم تخضع للدراسة الوافية والتحليل الكافى لمحاولة الاستفادة منها مستقبلاً. ومع بدء ظهور نتائج الاستفتاء على مشروع الدستور فى المرحلة الأولى، عاد صعيد مصر ليفرض نفسه بقوة على الساحة من خلال التوازن الرائع الذى أحدثته محافظات الصعيد التى شملتها المرحلة الأولى وهى أسيوط وسوهاج وأسوان لصالح الموافقة على مسودة الدستور إذ قاربت نسبة الموافقة فى هذه المحافظات ال 80% رغم ارتفاع نسبة الأقباط فى التركيبة السكانية للصعيد عن بقية محافظات مصر ومن المعروف أن الصوت القبطى كان محجوزاً مسبقاً لرفض مسودة الدستور. ومن المتوقع أن تسير بقية محافظات الصعيد فى المرحلة الثانية على ذات المنوال بإذن الله . هذا الحضور الصعيدى القوى لصالح المشروع الإسلامى فى جميع الاستحقاقات الانتخابية عقب تنحى مبارك وحتى الآن يجب أن يخضع لقراءة متعمقة ورصينة من مختلف اتجاهات التيار الإسلامى لأن القراءة الأولية والسريعة تعطينا العديد من الدلالات الهامة يأتى فى مقدمتها أن مركز ثقل التيار الإسلامى الحقيقى هو صعيد مصر، إضافة إلى محافظات الأطراف شمال وجنوب سيناء ومرسى مطروح، مما يستلزم تعظيم الجهد الدعوى والتربوى والتنموى فى هذه المناطق بما يكافأ الثقة الممنوحة من سكانها والتى يجب ألا تفهم على أنها ثقة ممنوحة بصك على بياض بل هى معرضة للاهتزاز والتآكل ما لم يتم تطوير الأداء فى هذه المحافظات والاستفادة من أخطاء الفترة الماضية والتى يجب بحثها بكل حيدة ونزاهة. كما أن الصعيد يعانى حرماناً هائلاً من الخدمات والمشاريع الكبرى التى يمكنها امتصاص الطاقات الشبابية وينقذها من غول البطالة وقد عمد النظام السابق إلى تجاهل الصعيد تجاهلاً كبيراً عقاباً له على انحيازه للتيار الإسلامى، وعانت مدنه وقراه من الحملات الأمنية الظالمة طيلة سنوات طويلة، كما اعتقل الآلاف من أبنائه مدداً طويلة وصلت إلى ما يقرب من خمسة عشر عامًا فى الاعتقال الواحد وربما أكثر لم يعوضوا التعويض الملائم حتى الآن. كما أن انحياز أهل الصعيد للمشروع الإسلامى الواضح يعنى أن هناك جهداً مبذولاً على الأرض وبين الجماهير من كثير من الدعاة والمربين غير المعروفين، نظراً لاهتمام معظم القنوات المصنفة بكونها إسلامية بدعاة الوجه البحرى والقاهرة وعدم تسليط الضوء على الأداء الدعوى الرائع المبذول على أرض الواقع والذى يصلنى بعض منه ويعكس تطوراً كبيراً فى الأداء الدعوى عما هو موجود وسائد لدينا فى الوجه البحرى سواء من حيث الشكل أو من حيث المضمون وهو ما يحتاج إلى تطوير دائم ومستمر. صعيد مصر ظلم كثيرًا فى عصر مبارك ومازال يتعرض للظلم حتى الآن بتعمد تجاهله رغم أنه قدم مئات الشهداء خلال مسيرته الاحتجاجية ضد النظام السابق، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر د.علاء محيى الدين المتحدث السابق باسم الجماعة الإسلامية ابن مركز ساقلته بسوهاج، والذى قتل رميًا بالرصاص فى أحد شوارع الجيزة عام 90، والشيخ عرفة درويش والذى تم قتله بواسطة القناصة فى أحد مساجد مركز ديروط بأسيوط وهو قائم على المنبر يخطب الجمعة عام 92، والقائمة الإنسانية طويلة جدا والمساحة المتاحة للنشر تتلاشى. فجزى الله الصعيد وأهله خيراً. [email protected]