نحن الذين ارتضينا الإسلام دينًا، نؤمن أنه دين الفطرة، بمعنى أن الاستجابة له تنبثق من الكيان الإنسانى نفسه، ففى هذا الكيان نوازع وميول لا تستقيم ولا تنمو وتؤتى ثمارها الطيبة إلا إذا عاشت حياة إسلامية، تعرف فيها ربها وتنتهج نهج نبيها. إلا أنه قد يغطى على الفطرة حجب تمنعها من أن تبصر نور الإسلام، وتحول بينها وبين إدراك حقيقته، وقد تدعو البعض إلى محاربته، إلا أن هذا التوافق والتجاوب التلقائى بين الإسلام والفطرة الإنسانية يظل قائمًا فى كل الأوضاع؛ لأن الله تعالى هو الذى ركب فى الإنسان استعداده للإيمان به، واتباع شريعته. وهذا التجاوب التلقائى هو الذى يجعل الإسلام غير محتاج إلى سلوك طريق التبشير فى محاولة كسب الأتباع والأنصار، فالمبشرون بالأديان الأخرى يسلكون كل سبل الإغراء، بل والخداع من أجل نشر أديانهم، أما المسلمون فيجعلون حياتهم الإسلامية النظيفة السليمة وسيلتهم الأولى لكسب القلوب. وهم يدركون أنه لا حاجة لهم إلى أكثر الناس من إزالة الحجب التى تحول بين الناس والإسلام ليقبل الناس على دين الله أفواجا. ولنأخذ مثلا هذه الصورة التى وردت فى كتب السيرة عن كيفية رفع الحجب التى كانت تغطى على بصيرة رجل فى المدينة؛ ليصبح من أصدق جند الله والإسلام. كان عمرو بن الجموح سيدًا من سادات بنى سلمة وأشرافهم، وبنو سلمة من أهل المدينة الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان لعمرو بن الجموح (صنم من الخشب) فى داره، على عادة أشراف العرب الذين كانوا يتخذون أصنامًا فى دورهم يعظمونها، وكان بنو سلمة يعرفون لعمرو بن الجموح فكره وصواب رأيه. وعندما دخل الإسلام المدينة كان بعض شباب بنى سلمة من أوائل من أسلم، وفيهم معاذ بن عمرو بن الجموح الذى شهد بيعة العقبة، ومعاذ بن جبل. وأحب هؤلاء الشباب أن يُعَرِّفوا عمرو بن الجموح أن عبادة الأصنام باطلة، وأنه ليس مع الله آلهة أخرى، إلا أنهم ترددوا فى مفاتحته بحديث مباشر، وقد هداهم تفكيرهم إلى أن خير وسيلة لتمزيق الحجاب عن عينى الرجل أن يجعلوه يدرك أن صنمه ليس إلا قطعة من الخشب، فكانوا إذا أقبل الليل ونام عمرو أخذوا صنمه فألقوه فى بعض الحفر التى كان العرب يقضون حاجتهم فيها؛ إذ لم يكن العرب يتخذون مراحيض فى دورهم. وكان عمرو إذا أصبح فلم يجد صنمه ينطلق فيبحث عنه حتى يجده، فيغسله وينظفه ويطيبه، وهو يتساءل: (من عدا على آلهتنا هذه الليلة؟!)، فلا يجد جوابًا عند أحد، ويقول لصنمه: والله لو أعلم من فعل بك هذا لأخزينه. الفطنة ومعرفة أحوال الناس من أهم أسس الدعوة وتكرر الأمر حتى ضاق عمرو بن الجموح ذرعًا بما يحدث لصنمه، وبدأ ذهنه يتفتح لحقيقة أن ذلك الصنم لا يستطيع أن يرد عن نفسه شيئًا؛ ولذا، فبعد أن غسل عمرو صنمه وطيبه وأعاده إلى مكانه، جاء بسيفه فعلقه عليه، ثم قال له: إنى والله ما أعلم من يصنع بك ما أرى، فإن كان فيك خير فامتنع (أى دافع عن نفسك)، وهذا السيف معك. وأقبل شباب بنى سلمة فى الليل فرأوا السيف معلقًا فى رقبة الصنم، فعرفوا أن صاحبهم قد بدأ يدرك الحقيقة، فأخذوا الصنم وفعلوا به فعلة أشد مما كانوا يفعلون؛ إذ ربطوه بكلب ميت قبل أن يلقوه فى حفرة قضاء الحاجة، وفى الصباح شاهد عمرو بن الجموح صنمه الذى كان يعتبره إلهًا فى هذه الحال، فوقف مستاء لا يدرى ما يقول، وهنا جاءه ابنه وبعض إخوانه من المسلمين فكلموه فى الإسلام، وتحركت دوافعه الفطرية فأسلم وشهد شهادة الحق، وحسن إسلامه. كان عمرو بن الجموح يعانى من عرج شديد فى رجله، إلا أن الإسلام أعطاه من حماسة الشباب الشىء الكثير، فعندما حضرت غزوة أحد أراد أن يخرج للقتال، وكان معه أربعة أبناء كلهم شباب، فأرادوا منعه من الخروج للقتال، وقالوا له: نحن نكفيك، وإن الله عز وجل قد عذرك. فجاء عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن بَنى يريدون أن يحبسونى عن هذا الوجه والخروج معك فيه، ووالله إنى لأرجو أن أطأ بعرجتى هذه الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما أنت فقد عذرك الله فلا جهاد عليك"، وقال لبنيه: "ما عليكم ألا تمنعوه، لعل الله أن يرزقه الشهادة؟". وخرج عمرو فى جيش المسلمين إلى أحد، وهو يعرج، وصمد مع المسلمين، وقاتل حتى كتب الله له الشهادة. وشتان شتان بين عمرو بن الجموح قبل إسلامه، وبعد أن اهتدى بفضل الله إلى الصراط المستقيم. (رجل العقيدة) ليس فى الدنيا كلها أطيب عيشًا من المؤمنين الصادقين الذين عرفوا ربهم وأيقنوا بالدار الآخرة {والَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وآمَنُوا بِمَا نُزِّلَعَلَى مُحَمَّدٍ وهُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وأَصْلَحَ بَالَهُمْ}. [سورة محمد: 2]. إن حلَّت بهم نعمة عرفوا من أهداها إليهم فشكروا، وإن مسَّتهم شدة لجئوا إلى ربهم فصبروا، وأطالوا الوقوف بباب ربهم؛ حتى يرفع عنهم ما حلّ بهم، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وأُوْلَئِكَ هُمُ المُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. نحن أمام رجال أصحاب عقيدة ومبدأ، من الطراز الذى يظهر فى آفاق الحياة، كما تظهر الشهب فى ظلمات الليل، تومض ثم تختفى، وتاريخ الدعوات الكبرى التى حوّلت طريق البشرية، ونقلت الإنسانية من المحيط الآسن الملىء بالأوحال، إلى المحيط الربانى الكريم. هذه الدعوات لا يصلح لها إلا هذا الطراز الفريد، طراز لا يعرف إلا الجهاد المتواصل المضنى، والعطاء الدائم. يقول الرافعى رحمه الله تعالى: (ولهذا سُمِّى الدين بالإسلام؛ لأنه إسلام النفس إلى واجبها). ثم يقول عن شخصية رجل العقيدة: لا يضطرب من شىء، وكيف يضطرب ومعه الاستقرار؟! لا يخاف من شىء وكيف يخاف ومعه الطمأنينة؟! لا يخشى مخلوقًا، وكيف يخشى ومعه الله؟!. قال خباب رضى الله عنه: هاجرنا مع النبى صلى الله عليه وسلم ونحن نبتغى وجه الله. فوقع أجرنا على الله فمنا من أينعت له ثمرته فى الدنيا فهو يستمتع بها، ومنا من مضى ولم يأخذ من أجره شيئًا، منهم مصعب بن عمير قتل يوم أحد، فلم يترك إلا ثوبًا باليًا، كنا إذا غطينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا رجليه تعرّت رأسه، فقال لنا النبى صلى الله عليه وسلم: (غطوا به رأسه، وألقوا على رجليه من الأذخر) رضى الله عنه وأرضاه. فأين نحن من هؤلاء؟!! الإسلام دين الفطرة لا يحتاج إلى إغراءات المبشرين! هل شككتم أيها المسلمون وتزعزعتم، أن بعث الله لكم من يختبر بعدوانه صبركم وبمكره وكيده وأذاه رجولتكم؟ هل تضايقتم أن جعل الله لكم امتحانًا لينظر ماذا استفدتم من دروس الإسلام التى تلقيتموها فى جامعة محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه؟ أما تذكرون ما قاله لأجدادكم ومن بعدهم {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ ولِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ واللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ولِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ويَمْحَقَ الكَافِرِينَ}. [آل عمران: 139 -141]. هل تظنون أنكم تنالون الشهادة، أو ترتقون إلى درجة البطولة بلا اختبار وامتحان {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ ولَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ ويَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142]. المد الإسلامى أين كنا قبل مائة سنة؟! وأين نحن اليوم؟! إنه ما كان أحد يدعو إلى الإسلام اللهم إلا علماء الأزهر، ولم تكن للإسلام جريدة ولا مجلة، ولم يكن له دعاة فى ميدان الاقتصاد ولا فى السياسة ولا الأدب ولا فى كليات الجامعة ولا فى دور النشر، فانظروا بحمد الله ما لنا اليوم. أيها المسلمون.. لم يَعُد يصعب على من يرقب الحوادث ويطالع الأخبار فى كل أقطار الإسلام أن يتبين بوضوح فى زحمة الحياة اتجاهًا إسلاميًّا صحيحًا يمضى فى الطريق رغم العقبات التى تقيمها أمامه القوى -المسماة الكبرى- والتى تجهل الإسلام أو تحقد عليه، ففى كل بلد من القارات الخمس شباب نشأ فى طاعة الله، ويُعِدّ نفسه للجهاد فى سبيله، شباب ترك هواه لطاعة الله تعالى، وضحى بشهواته ابتغاء مراضاته، لا تردهم مشاغل الحياة عن طلب العلم مع الحرص على العمل لدينهم وإسلامهم، ألا يبشر هذا بالمد الإسلامى الماضى فى الطريق، مهما قست الرياح واشتد الزبد. وهذه الموجة المباركة من المد الإسلامى مصداقها قول المختار صلوات الله وسلامه عليه: (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الناس يزيغ الله تعالى قلوب أقوام فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتى أمر الله وهم على ذلك). [رواه النسائى]. أين الذين زحفوا على ديار المسلمين من الشرق والغرب؟ وفى وحشية وقسوة لم ترَ الدنيا لها نظيرًا.. استباحوا الذبح والتقتيل لكل مسلم ومسلمة حتى سبحت خيولهم فى دماء سبعين ألف مسلم فى حرم المسجد الأقصى، وكان على القائد المسيحى الذى ذهب فى الصباح لزيارة منطقة المسجد، أن يشق طريقه بين الجثث والدماء التى وصلت إلى ركبتيه، لقد ذهبوا وبقى الإسلام.. ذهبوا كما ذهب من قبلهم فرعون وهامان والنمرود.. وهلكوا كما هلكت عاد وثمود، وقد كانوا جبابرة الأرض وكانوا مردة البشر.. لقد جرف الجميع سيل الأقدار، فأين هم الآن؟.. وسنقول عما قريب، سنقولها نحن بإذن الله تعالى أو يقولها غدًا أبناؤنا.. أين إسرائيل؟! أين اليهود؟! أين حثالات البشر؟! أين قتلة الأنبياء؟! سيذهب هؤلاء كما ذهب غيرهم من القرامطة والحشاشين والآلاف من أعداء الإسلام الذين ظهروا واختفوا، وكانوا أشد قوة وأكثر نكالا، فلم يَعُد يدرى خبرهم أحد. لقد مرَّ بالمسلمين من الأيام والليالى ما هو أشد وأخطر عليهم من إسرائيل، لقد رفضت الصليبية أن يبقى فى الأندلس مسلم واحد بعد أن عمَّرها المسلمون ثمانية قرون وعشرين عامًا أو يزيد، ولقد غالبت الأمة الإسلامية هذه الدواهى جميعًا، وكان لها على مدار التاريخ حركات مقاومة شديدة لم يَخلُ منها مكان، وبقى للمسلمين رغم ضجيج القوى الظالمة.