المفروض بعد أى ثورة أن ينتعش "التثقيف السياسى" لدى عامة الشعب بواسطة القوى الثورية التى قادت الثورة، بحيث نعوض سنوات الديكتاتورية ال 60 التى مرت بها مصر منذ ثورة يوليو 1952، وعدم تحقيقها لأهم بند من مبادئها وهو (حياة ديمقراطية سلمية)، ولكن ما حدث هو أن هذه القوى السياسية نشرت– على العكس- ثقافة (التخوين السياسى) ونقلت أمراضها إلى الشعب المصرى! هذا يفسر فى تقديرى كل هذا الكمّ الهائل من الشتائم والبذاءات والحشد الإعلامى، بل والاحتقانات الشعبية التى نراها فى الشارع، ويفسر تعاظم الاعتصامات الفئوية وفقدان المواطنين الثقة فى المستقبل بدلا من أن يثقوا فى أن النظام الجديد الذى جاء بعد الثورة سوف ينقل البلاد– تدريجيا لا بعصا سحرية– الى مستقبل أفضل. من المسئول عن انتشار ثقافة التخوين هذه؟ من المسئول عن انتشار التشكيك والتخوين المستمر بين جميع الأطراف السياسية والشعبية سوء بين الأحزاب مع بعضها البعض أو الجيش والشعب أو الحكومة والموظفين أو بين الأحزاب والشعب؟ لو عدنا للبداية سنجد أن هناك مشكلة موجودة أصلا ما قبل ثورة 25 يناير تتمثل فى عدم انتشار مفاهيم التثقيف السياسى السليم للشعب؛ لأن النظام الديكتاتورى السابق لم يكن يريد هذا، وبدلا من ذلك نشروا ما يسمى ثقافة (التسميم السياسى) القائمة على التخويف وبث الأكاذيب تجاه الخصوم من المعارضة السياسية، خاصة الإخوان والتيارات الإسلامية عموما باعتبارها أقوى الخصوم وأكثر القوى السياسية تأثيرا. هذا "التسميم السياسى" انتقل للأسف لنا بعد الثورة فى صورة التشكيك المستمر فى التيارات الإسلامية، وجاءت الانتخابات البرلمانية والرئاسية التى فاز فيها الإسلاميون بالأغلبية على غير هواء التيارات الأخرى اليسارية والليبرالية تحديدا، فبدأ الإرث المتعلق بالتسميم السياسى يظهر مرة أخرى. وبدأنا نسمع اتهامات بأن الإخوان المسلمين والجماعات الإسلامية خانوا الثورة والثوار فى سبيل تحقيق أغراض شخصية– يقصدون مشاركتهم فى الانتخابات والحصول على مقاعد البرلمان بدل الاستمرار فى التظاهر– وانتقل الحديث لاتهام الإسلاميين ببيع دماء الشهداء، بينما كان تصرف الإسلاميين أكثر إدراكا لصعوبة الحصول على كل شىء مرة واحدة وضرورة الاستقرار والتغيير التدريجى، وهو ما اختلف عليهم التيارات الأخرى. أيضا انتقل الخلاف مع قيادة الجيش التى تحكم البلاد والشرطة للتخوين بسبب أحداث محمد محمود ومجلس الوزراء واستاد بور سعيد وماسبيرو، برغم وضوح تدخل طرف ثالث لتعميق ثقافة التخوين السياسى بين الطرفين وتعميقها ونشر "التسميم السياسى"، دون أن نضع خيطا رفيعا بين احترام دور الجيش فى انتصار الثورة وأخطاء القيادة العسكرية السابقة فى التعامل مع (واقع مدنى) يختلف عما اعتادت عليه من التعامل مع (واقع عسكرى). وبدلا من تدخل العقلاء زاد نفخ أطراف ليبرالية ويسارية فى الأزمة، واستغل رموز من الدولة العميقة من بعض القضاة ورجال الأمن الأزمة لتعميق الخلافات، فانتقلت الاعتراضات لتأسيسية الدستور، والمطالبة بهدم أى مؤسسات قامت بعد الثورة بدعاوى أن التيار الإسلامى له الغلبة بحكم نتائج الانتخابات. ما هو الحل؟ الحل يتمثل فى العودة للصح.. العودة لسياسية التثقيف السياسى وألف باء السياسة التى لم يتعلمها البعض، وأبرزها ثقافة الاختلاف بأدب لا قلة أدب وثقافة القبول بنتائج الانتخابات.