أنهى الإمام محمد الغزالي آخر ورقة في كتاب حياته بالسعودية، عندما كان يناقش موضوع "الإسلام وتحديات العصر"، وطويت صفحات كتابه ودُفِنَ بالبقيع، وكان قبلها يتمنّى أن يُدفَنَ بجوار النبي- صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، وترك تراثًا علميًّا ضخمًا تعدى ال40 كتابًا، غير المحاضرات والدروس الصوتية. واعتبر الشيخ الراحل محمد الغزالي، الذي تحل ذكرى ميلاده هذا الشهر، أنه ولد في أسوأ فترة عاشها التاريخ الإسلامي، موضحا أنه "برز إلى الدنيا في كبوة من تاريخ الإسلام، في أيام كئيبة كان الإنجليز فيها يحتلون مصر، كما احتلوا أقطارا كثيرة من أرض الإسلام الجريح". وكان الغزالي- رحمه الله تعالى- شوكة في حلق جمال عبد الناصر بكتبه وفقهه، كما كان كذلك في عهد السادات ومن بعده مبارك، وما زالت كتب الغزالي تصيب العسكر بالرعب، لا سيما أنها تضخ الصمود والصبر في عروق الأجيال وتدفعهم إلى مواجهة الطغاة. المولد والنشأة نشأ الغزالي في إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، في 3 من ذي الحجة 1335، 22 سبتمبر 1917، واسمه محمد الغزالي أحمد السقا، ولُقب بالغزالي لأن والده رأى في منامه الإمام أبو حامد الغزالي، وقال له "إنه سينجب ولدا، ونصحه أن يسميه على اسمه الغزالي، فما كان من الأب إلا أن عمل بما رآه في منامه". وأتمّ حفظ القرآن بكُتّاب القرية في العاشرة، ويقول الإمام محمد الغزالي عن نفسه وقتئذ: "كنت أتدرب على إجادة الحفظ بالتلاوة في غدوي ورواحي، وأختم القرآن في تتابع صلواتي، وقبل نومي، وفي وحدتي، وأذكر أنني ختمته أثناء اعتقالي، فقد كان القرآن مؤنسا في تلك الوحدة الموحشة". والتحق بعد ذلك بمعهد الإسكندرية الديني الابتدائي، وظل بالمعهد حتى حصل منه على شهادة الكفاءة، ثم الشهادة الثانوية الأزهرية، ثم انتقل بعد ذلك إلى القاهرة سنة (1356 ه الموافق 1937م) والتحق بكلية أصول الدين بالأزهر. اتصاله بالإخوان وفي أثناء دراسته بالقاهرة اتصل بالإمام الشهيد حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، وتوثقت علاقته به، وأصبح من المقربين إليه، حتى إن "البنا" طلب منه أن يكتب في مجلة "الإخوان المسلمين"، فظهر أول مقال له وهو طالب في السنة الثالثة بالكلية، وأصبح له باب ثابت تحت عنوان "خواطر حية"، وواصل الكتابة حتى تخرج سنة 1940م ثم تخصص في الدعوة. وبعد قرار الملك فاروق بحل جماعة الإخوان المسلمين في 1948، واغتيال الإمام حسن البنا، أودع "الغزالي" معتقل الطور مع كثير من أعضاء الجماعة، وظل به حتى خرج من المعتقل في سنة 1949م، وبعدها خرج ليعود للدعوة من جديد. يقول الغزالي عن تلك الفترة :"وإني أعترف، بأني واحد من التلامذة الذين جَلسوا إلى حسن البنا، وانتصحوا بأدبه، واستقاموا بتوجيهه، واستفادوا من يقظاته ولَمَحَاته". عمل إمامًا وخطيبًا في مسجد العتبة الخضراء، ثم تدرّج في الوظائف حتى صار مفتشًا في المساجد، ثم واعظًا بالأزهر ثم وكيلاً لقسم المساجد، ثم مديرًا للمساجد، ثم مديرًا للتدريب فمديرًا للدعوة والإرشاد. حول العالم الإسلامي وفي سنة 1391ه 1971م، أُعير للمملكة العربية السعودية أستاذًا في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ودرّس في كلية الشريعة بقطر، وفي سنة 1401ه 1981م، عُيِّن وكيلا لوزارة الأوقاف بمصر. سافر إلى الجزائر سنة 1984م للتدريس في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، التي درّس فيها برفقة العديد من الشيوخ، كالشيخ يوسف القرضاوي، ومحمد سعيد البوطي، حتى تسعينيات القرن العشرين، وبعدها تولى رئاسة المجلس العلمي لجامعة الأمير عبد القادر الجزائري الإسلامية بالجزائر لمدة خمس سنوات، وكانت آخر مناصبه. ومع اختلافه في بعض الآراء مع بعض العلماء، فإنه كان يُنزل كل إمام منزلته، ويعطيه قدره الذي يستحقه، ويقول في ذلك: "مع أني أميل أحيانًا إلى الفقه الحنفي، فإني جانح بفؤادي وإعجابي إلى الشافعي". وقال عن تقديره لكل العلماء حتى القدامى: "إنني لا أجعل عيبًا ما يغطي مواهب العبقري، ثم لحساب مَنْ أهدم تاريخنا الأدبي والديني؟، ولمصلحة مَن أشتم اليوم علماء لهم في خدمة الإسلام وكبت أعدائه كفاح مقدور؟، ومَن يبقي مِنْ رجالنا إذا أخذت تاريخ الشيخين أبي بكر وعمر مِنْ أفواه غلاة الشيعة، وتاريخ على بن أبي طالب من أفواه الخوارج، وتاريخ أبي حنيفة من أفواه الإخباريين، وتاريخ ابن تيمية من ابن بطوطة وابن فلان". أنصاف العلماء كان من منهج الشيخ الغزالي رفض دخول العوام، وأنصاف العلماء حلبة الإفتاء، وكان يراهم مدَّعين، وكثيرًا ما تعرَّض- رحمه الله- لتطاولهم وإساءاتهم. يقول الغزالي: "وَدِدتُ لو أُعِنتُ على محاكاة أبي حامد الغزالي مُؤَلِّفِ إلجام العوام عن علم الكلام، فَأّلفتُ كتابًا عنوانه إلجام الرَّعاع والأغمار عن دقائق الفقه ومُشكِل الآثار، لأمنعهم عن مناوشة الكبار، وأشغلهم بما يصلحون له من أعمال تناسب مستوياتهم، وتنفع أممهم بهم". كما يُعد الغزالي من أبرز الدعاة المدافعين عن اللغة العربية في هذا العصر، وكان يقول: "اللغة العربية في خطر، أدركوها قبل فوات الأوان".