فوجئت الأوساط السياسية العالمية، أمس، بموقف بطولي جديد قدمته سياسية أردنية بارزة تعمل مسؤولة مرموقة في أكبر وأهم منظمة دولية في العالم ؛ ومنذ ذلك الحين لم تتوقف المنصات الإعلامية عن الإشارة إلى تلك السيدة التي رفضت الانصياع لقرارات أمين عام الأممالمتحدة، وتحدت إسرائيل بتقرير يثبت ممارستها للتفرقة العنصرية. في الوقت الذي لا يجرؤ الكثير من الرجال على اتخاذ مثل هذا الموقف لاعتبارات سياسية ومادية واجتماعية. ريما خلف، وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة، ورئيسة "الإسكوا" اللجنة الاقتصادية الاجتماعية لغرب آسيا، لم تنتظر الأسبوعين اللذين يفصلانها عن مغادرة مركزها المرموق ؛ فقدمت استقالتها من الأممالمتحدة، بعد رفضها أمر الأمين العام أنطونيو جوتيريس بحذف التقرير الأممي الذي تجزم فيه "الإسكوا" بأن النظام الصهيوني يتبع سياسة الفصل العنصري.
التقرير الذي أصدرته "الإسكوا" وأصرت "ريما" على عدم حذفه، جاء بعنوان (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد)، وتكمن خطورته في أنه يتيح الفرصة أمام أي دولة عربية، أو غيرها، في أن ترفع طلبا للجمعية العامة للأمم المتحدة، فتصدر قرارا باعتبار إسرائيل دولة فصل عنصري. وهي الجريمة التي لا تسقط بالتقادم، وتأتي في المرتبة الثانية من حيث التجريم الدولي عقب جريمة الإبادة.
نص خطاب الاستقالة:
حضرة الأمين العام، لقد فكرت مليا في الرسالة التي بعثتها لي من خلال مديرة ديوانك. وأؤكد أنني لم أشكك للحظة في حقك بإصدار تعليماتك بسحب التقرير من موقع الإسكوا الإلكتروني، كما لم أشكك في أن علينا جميعا كموظفين لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة أن ننفذ تعليمات أمينها العام. وأنا أعرف على وجه اليقين التزامك بمباديء حقوق الإنسان عامة وموقفك إزاء حقوق الشعب الفلسطيني خاصة. وأنا أتفهم كذلك القلق الذي ينتابك بسبب هذه الأيام الصعبة والتي لا تترك لك خيارات كثيرة.
وليس خافياً علي ما تتعرض له الأممالمتحدة، وما تتعرض له أنت شخصياً، من ضغوط وتهديدات على يد دول من ذوات السطوة والنفوذ، بسبب إصدار تقرير الإسكوا (الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الأبارتايد). وأنا لا أستغرب أن تلجأ هذه الدول، التي تديرها اليوم حكومات قليلة الاكتراث بالقيم الدولية وحقوق الإنسان، إلى أساليب التخويف والتهديد حين تعجز عن الدفاع عن سياساتها وممارساتها المنتهكة للقانون.
وبديهي أن يهاجم المجرم من يدافعون عن قضايا ضحاياه. لكنني أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط.. لا بصفتي موظفةً دوليةً، بل بصفتي إنساناً سوياً فحسب، أؤمن –شأني في ذلك شأنك-بالقيم والمباديء الإنسانية السامية التي طالما شكلت قوى الخير في التاريخ، والتي أُسست عليها منظمتنا هذه، الأممالمتحدة. وأؤمن مثلك أيضاً بأن التمييز ضد أي إنسان على أساس الدين أو لون البشرة أو الجنس أو العرق أمر غير مقبول، ولا يمكن أن يصبح مقبولاً بفعل الحسابات السياسية أو سلطان القوة. وأؤمن أن قول كلمة الحق في وجه جائر متسلط، ليس حقاً للناس فحسب، بل هو واجب عليهم.
في فترة لا تتجاوز الشهرين، وجهت لي تعليمات بسحب تقريرين أصدرتهما الإسكوا، لا لشوائبَ تعيب المضمون ولا بالضرورة لأنك تختلف مع هذا المضمون، بل بسبب الضغوطات السياسية لدول مسؤولة عن انتهاكات صارخة لحقوق شعوب المنطقة ولحقوق الإنسان عموماً.
لقد رأيتَ رأي العين كيف أن أهل هذه المنطقة يمرون بمرحلة من المعاناة والألم غير مسبوقة في تاريخهم الحديث؛ وإن طوفان الكوارث الذي يعمهم اليوم لم يكن إلا نتيجة لسيل من المظالم، تم التغاضي عنها، أو التغطية عليها، أو المساهمة المعلنة فيها من قبل حكومات ذات هيمنة وتجبر، من المنطقة ومن خارجها. إن هذه الحكومات ذاتها هي التي تضغط عليك اليوم لتكتم صوت الحق والدعوة للعدل الماثلة في هذا التقرير.
واضعةً في الاعتبار كل ما سبق، لا يسعني إلا أن أؤكد على إصراري على استنتاجات تقرير الإسكوا القائلة بأن إسرائيل قد أسست نظام فصل عنصري، أبارتايد، يهدف إلى تسلط جماعة عرقية على أخرى.
إن الأدلة التي يقدمها التقرير قاطعة، وتكفيني هنا الإشارة إلى أن أياً ممن هاجموا التقرير لم يمسوا محتواه بكلمة واحدة. وإني أرى واجبي أن أسلط الضوء على الحقيقة لا أن أتستر عليها وأكتم الشهادة والدليل.
والحقيقة المؤلمة هي أن نظام فصل عنصري، أبارتايد، ما زال قائما في القرن الحادي والعشرين، وهذا أمر لا يمكن قبوله في أي قانون، ولا أن يبرر أخلاقياً بأي شكل من الأشكال.
وإنني في قولي هذا لا أدعي لنفسي أخلاقاً أسمى من أخلاقك أو نظرا أثقب من نظرك، غاية الأمر أن موقفي هذا قد يكون نتيجة لعمر كامل قضيته هنا، في هذه المنطقة، شاهدة على العواقب الوخيمة لكبت الناس ومنعهم من التعبير عن مظالمهم بالوسائل السلمية.
وعليه، وبعد إمعان النظر في الأمر، أدركت أنني أنا أيضاً لا خيار لي. أنا لا أستطيع أن أسحب، مرة أخرى، تقريراً للأمم المتحدة، ممتازَ البحثِ والتوثيقِ، عن انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. غير أنني أدرك أيضاً، أن التعليمات الواضحة للأمين العام للأمم المتحدة لا بد من أن تنفذ. ولذلك، فإن هذه العقدة لا تحل إلا بأن أتنحى جانباً وأترك لغيري أن يقوم بما يمنعني ضميري من القيام به.
وإنني أدرك أنه لم يبق لي في الخدمة غير أسبوعين، لذلك فاستقالتي هذه لا تهدف إلى الضغط السياسي عليك. إنما أستقيل، ببساطة، لأنني أرى أن واجبي تجاه الشعوب التي نعمل لها، وتجاه الأممالمتحدة، وتجاه نفسي، ألا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة تسبب كل هذه المعاناة لكل هذه الأعداد من البشر. وبناء عليه، أقدم إليك استقالتي من الأممالمتحدة.
ليست المرة الأولى
لم تكن تلك الاستقالة البطولية هي الأولى التي تقدمها ريما خلف من منصب كانت تتقلده ؛ حيث سبق أن قدمت استقالتها من الوزارة الأردنية لأن رئيس الوزراء، حينئذ، نادى عليها قائلا: "يا ست ريما"، فلم تتمالك نفسها إلا بالرد عليه بأنها تحمل الدكتوراه كما يحملها، وأنه لا ينبغي أن يتم النداء عليها باعتبارها"الست"، ثم قدمت استقالتها الفورية، التي رسخت بها أحد مباديء احترام الذات، والرقي فوق المصالح الشخصية حين يتعلق الأمر بالكرامة، أو الحق. فلا فرق بينهما لدى ريما خلف، التي أشارت في رسالتها للأمين العام للأمم المتحدة إلى أنها لا يمكن أن تخالف ضميرها، أو أن تسكت عن قول الحق في وجه الجائر مهما كانت سلطته أو نفوذه أو درجة إجرامه.
أحرجت الجميع
ربما لم يدر في بال المسؤولة العربية حين تقدمت باستقالتها أنها بذلك تحرج الكثير من الزعماء والمسؤولين والسياسيين العرب، الذين يتطوعون للإضرار بالقضية الفلسطينية عن طيب خاطر، والذين ليس لديهم أي مانع من بيع القضية لمن يدفع أي ثمن، وليس بالضرورة لمن يدفع أكثر، بالإضافة إلى الذين انكشفت علاقاتهم الخفية بالصهاينة، سواء على مستوى التماهي الدبلوماسي أو اللقاءات السرية أو الاتفاقات المشبوهة التي لا تفيد سوى الكيان الصهيوني الذي يمارس المذابح واغتصاب الأرض والتهجير منذ 1948 دون توقف.
كما أحرجت "ريما" سلطات الانقلاب المصرية التي تعاقب أبناء فلسطين بالحصار الذي يفرضونه على قطاع غزة، ومساندة إسرائيل في فرض التجويع عليهم، والزج بالفلسطينيين في قضايا لا علاقة لهم بها ؛ لمحاولة إثبات، دون أي دليل مقنع، أن الفلسطينيين يدبرون للإضرار ببلادهم. وهو ذات النظام الذي يرسل وزير خارجيته إلى الكيان الصهيوني ويبادل رئيس وزرائه الأحضان والقبلات والعشاء والسمر أيضا.
الاستقالة كشفت أيضا الوجه القبيح للسلطة الفلسطينية التي لم تتوقف عن استجداء رضا إسرائيل بأي وسيلة ؛ حتى لو كانت مطاردة المقاومين وسجنهم، أو إبرام اتفاقات التنازل عن السيادة الفلسطينية على أرضها.
من ريما؟
نشأت ريما خلف الهنيدي في الكويت، وكانت تتميز بالخجل الشديد والتردد والحساسية الشديدة، ثم أتمت دراستها الثانوية في عمّان، بداية السبعينيات من القرن الماضي، ثم اتجهت إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، والتحقت بكلية الاقتصاد التي نالت منها درجة البكالوريوس عام 1976، وتعرفت، هناك، بزوجها رجل الأعمال هاني الهنيدي.
وتأثرت ريما بأحداث الفتنة الطائفية في لبنان، وكانت قريبة فكريا من حركة "فتح"، ثم سافرت إلى الولاياتالمتحدة لإكمال تعليمها، وحازت شهادتي الماجستير والدكتوراه من جامعة بورتلاند العام 1984.
ثم عادت إلى الأردن، والتحقت بالعمل في وزارة التخطيط مطلع العام 1985، حيث ظهرت مواهبها، وترقت لتصبح مديرة دائرة الدراسات والتخطيط، ثم انتقلت للعمل مديرة لدائرة المراكز التجارية، فمديرة لدائرة تشجيع الاستثمار.
وعلى خطى والدها الذي تولى الوزارة مرتين، اختيرت ريما عام 1993 وزيرة للصناعة والتجارة في حكومة عبد السلام المجالي الأولى التي وقّعت معاهدة السلام مع إسرائيل، كما اختيرت في التشكيلة الوزارية لحكومة الأمير زيد بن شاكر الثالثة، لتتولّى حقيبة التخطيط، ثم في حكومة عبد السلام المجالي الثانية التي أعقبتها 1997.
وبعد ذلك انتقلت إلى العمل أمينًا عامًا مساعدًا ومديراً إقليمياً لمكتب الدول العربية في برنامج الأممالمتحدة الإنمائي، وأشرفت على تقرير التنمية البشرية، العربية لعامي 2002 و2003، ثم عملت مديرة تنفيذية لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم.
وخلال توليها منصب الأمينة التنفيذية للجنة الأممالمتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) طلب السفير الإسرائيلي لدى الأممالمتحدة رون بروس، من الأمين العام السابق للمنظمة بان كي مون، إيقاف وطرد، ريما خلف، بسبب "مواقفها المعادية لليهود".
وتعليقا على الاستقالة قال الكاتب والمحلل السياسي الأردني ياسر الزعاترة على "تويتر" : "شكرًا ريما خلف، فضحت الأممالمتحدة، وفضحت الدول التي تدعي العدالة وحقوق الإنسان، وفضحت سطوة الصهاينة على هذا العالم أيضًا، اسقتالتك موقف رائع".