تكلم الموتى عن مستقبلهم فى الحياة الدنيا شىء مضحك، وكلامهم عن التخطيط لما هو آت أمر محزن، وأقوالهم ودراساتهم لأهداف بعيدة أو قريبة عمل يدعو إلى الرثاء، الموت يوقف الحياة، إذن فلا معنى للحديث عنها، ويقطع الآمال، إذن فلا جدوى للتطلع إليها، إلا إذا عاد الإنسان إلى الحياة مرة أخرى، أما وهو ميت ومغرق فى الموت فلا يجوز له أو لأحد كائنًا من كان أن يتحدث عن ذلك، ولا من قبيل الجنون أو السفه العقلى والفكرى، ولا أدرى كيف تتكلم الشعوب الميتة اليوم عن المستقبل وعن الخطط؟! أو يتحدث بعض كهنتها اليوم عن ذلك.. اللهم إلا إذا كان هذا من حشرجات الموتى، أو من انتفاضة الشعوب الذبيحة التى تهذى بأصوات لا معنى لها ولا رابط بين حروفها، ولهذا فإن بعض الموتى من الشعوب وسلطاتها اليوم قد شعروا بحرمة الموتى، فأصبحوا لا يتحدثون عن خطط للمستقبل ولا عن آمال وطموحات لما هو آت، وبعضهم احترم علم الغيب وخصوصيات المجهول ورضى بالحاضر وجماله، وصرح فى غير مواربة: ليس فى الإمكان أبدع مما كان، وعمل بمقولة: "الكسل أحلى من العسل". إذن فأى متحدث عن المستقبل اليوم إذا كان جادًّا لا بد أن يأخذ فى مخططه إحياء الشعوب أولًا، حتى تستطيع صناعة المستقبل وخوض غمار التقدم والريادة، وحتى تتربى لها الهمة والدافعية والعزيمة التى تكافح بها لتصل إلى مستقبل أفضل، والأمة التى لا تعرف كيف تحيا الحياة الكريمة فتمزق أكفانها وتخرج من قبورها، أمة مقضى عليها بالزوال والانحلال. كيف تنهض الأمة وقانونها يقتل الحرية ويقطع الألسن ويحرق الكلمة ويحبس الرأى ويقتل الفكر؟! حتى قيل: يا قوم لا تتكلموا ** إن الكلام محرم ناموا ولا تستيقظوا ** ما فاز إلا النُّوّم نعم، أمة يفرض عليها الكسل وموت الهمة والكرامة كيف تنهض يا عباد الله؟ وكيف تفكر فى المستقبل وهى ميتة فى حاضرها ولا تملك التفكير فيه أو الاستفادة منه أو العيش فى جنباته؟ هل هذه الأمة تستطيع أن تدعى اليوم أنها تنتسب إلى الإنسانية فى عصرها الحاضر ويومها المُعاش؟ قال الإمام الراغب الأصفهانى: من تعطل وتبطل انسلخ من الإنسانية، بل من الحيوانية، وصار من جنس الموتى، ومن تعود الكسل ومال إلى الراحة، فقد الراحة. وقد قيل: إن أردت ألا تتعب فاتعب لئلا تتعب. وقيل أيضًا: إياك والكسل والضجر، فإنك إن كسلت لم تؤد حقًّا، وإن ضجرت لم تصبر على حق. ولأن الفراغ يبطل الهيئات الإنسانية، فكل هيئة، بل كل عضو ترك استعماله يبطل كالعين إذا أغمضت، واليد إذا عطلت، ولذلك وضعت الرياضات فى كل شىء، ولما جعل الله تعالى للحيوان قوة التحرك لم يجعل له رزقًا إلا بسعى ما منه، لئلا تتعطل فائدة ما جعل له من قوة الحركة، ولما جعل للإنسان قوة الفكرة ترك من كل نعمة أنعمها الله تعالى عليه جانبًا يصلحه هو بفكرته، لئلا تبطل فائدة الفكرة، فيكون وجودها عبثًا، وكما أن البدن يعوَّد الرفاهية بالكسل، كذلك النفس تتعوده بترك النظر والتفكر مما يجعلها تتبلد وتتبله، وترجع إلى رتبة البهائم، وإذا تأملت قول النبى: "سافروا تغنموا" ونظرت إليه نظرة عالية، علمت أنه حثك على التحرك الذى يثمر لك جنة الدنيا مع جنة المأوى. وأمتنا الحبيبة استطاع الأبالسة أن يدجنوها ويقردنوها، ثم يميتوها همّة وكرامة وعزمًا، والموت نوعان: موت العقل: بعدم إعماله فى التفكر والتدبر والنظر فى آلاء الله من ناحية، وتركه النظر إلى ما يُصلح شأن الإنسان ومن حوله فى الدنيا التى فيها معاشه، من ناحية أخرى. وليس تأخر الأمم ناتجًا إلا عن موت العقول فيها وقلة اكتراثهم بالقوة الإبداعية المفكرة التى أودعها الله فيهم. الموت الثانى: موت الحركة والبدن، بما يشتمل عليه من جوارح، وينجم عن هذا الموت تأخر الأفراد بل الأمم فى مجال النشاطات المختلفة من زراعة وصناعة وغيرها. أما عن قردنة الأمة أى جعلها قردة ومنافقين ودجاجلة، فقد صارت هذه الصفات اليوم صناعة رائجة، وتجارة رابحة فى عرف هؤلاء الهلكى المتخلفين، وهذا الصنف الضال، هو من أبرز أسباب الضلال والهوان، وصدق الله العظيم: "إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (143) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَن يُّضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً" (النساء). وهؤلاء كانوا دائمًا سبب وهن الأمم وتحطمها، وكل أمة تريد أن تنهض إلى الكمال والريادة لا بد لها من الاستعاذة بالله من الهوام ومن صفاتها الكريهة، وصدق رسول الله إذ يقول: "اللهم إنى أعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدَّيْن وقهر الرجال". هذه الهمم المنافقة العاجزة الكسلى الجبانة لا تنهض إلى المكارم ولا إلى تحقيق الآمال، وتعجز دائمًا عن طلب المراتب العالية، وتقصر ولا بد عن بلوغ الآمال والغايات، فتصير الأمة غثائية تتكون من فقاقيع، أو أمة دخانية تتكون من ذرات ضبابية لا جدوى منها ولا مهابة لها. وصدق رسول الله إذ يلمّح إلى ذلك تحذيرًا فيقول: "يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها" فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: "بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور أعدائكم المهابة منكم، وليقذفن فى قلوبكم الوهن". فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت" أى حب الصفات المرذولة والقعود عما تتطلبه الريادة من صفات للمنافسة والجلاد والعزة والدفاع عن الكرامة ومغالبة الوهن. ومن هنا يجب أن ننظر إلى المستقبل على أنه فى أغلبه جهاد وجلاد للنهوض وترتيب علاقاتنا مع الآخر، بل نقول بصيغة أوضح: إنه صراع ومنافسة، لأننا لا نعيش وحدنا فى هذه المعمورة، فهناك من ينافسنا فى حاضرنا حتى على ما نملك فكيف على ما يملك؟.. يهددنا ويريد أن يتقدم علينا. وبعبارة أخرى: يتحدى هدوءنا وسكينتنا وغفلتنا، فهل نستطيع أن نقاوم هذا التحدى وننافسه كما ينافسنا ونغالبه كما يغالبنا، ونرسم مستقبلنا ومستقبل أجيالنا؟! هذه هى القضية، ولكن بأى شىء يرسم ذلك المستقبل بأمة ميتة، أم بأمة غثائية لا تريد أو لا يُراد لها أن تنهض أو تحيا أو يكون لها عزم، هذا شىء محال، وهذه جريمة يتحمل وزرها كل فرد فى الأمة، لأنه خانع ومستسلم ولا يريد أن يرفع رأسًا مع أنه يرى ويسمع ويعيش هذا كله، وإن كان للأمة من عزاء اليوم، فبقيام رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، يكافحون ويجالدون الظلم والهوان والموات، فهل لك أن تصافحهم وتؤازرهم وتنصرهم وتؤدى واجبًا فُرض عليك وتدفع إثمًا أحاط بك؟ نسأل الله ذلك. لقد أبعد الله سبحانه عن الأمه الإسلامية هذا الموت وأحياها وبعث فيها النشاط والحياة ولفتنا إلى هذه المنة التى أمن الله عليها بها فقال سبحانه: "أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا"، والدعوة إلى الإحياء دعوة إلى العظمة والريادة والقوة والنعمة. حيث الحياة تطلق على القوة الحساسة، وبه سمى الحيوان حيوانا، قال عز وجل: "وَمَا يَسْتَوِى الأحْيَاءُ وَلاَ الأمْوَاتُ". وقوله تعالى: " أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا (26) أَحْيَاءً وَأَمْواتًا". وقوله تعالى: "إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِى الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ"، فقوله: (إن الذى أحياها) إشارة إلى القوة النامية، وقوله: (لمحيى الموتى) إشارة إلى القوة الحساسة. والحياة الثانية: هى القوة العاملة العاقلة، كقوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ). وأما قول الشاعر: لقد أسمعت لو ناديت حيا *** ولكن لا حياة لمن تنادى وقوله: ليس من مات فاستراح بميت *** إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من يعيش كئيبا *** كاسفا باله قليل الرجاء فالمراد بالحياة هنا حيات الذلة والمسكنة والتيه والترهل التى لا تنهض شعبا ولا ترفع ذكرا. والمراد بالحياة التى تراد للمسلم هى حياة العزة والكرامة، من ذلك قوله عز وجل: "وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ"، أى: هم متلذذون بها، لما روى فى الأخبار الكثيرة فى أرواح الشهداء. والحياة الأخروية الأبدية، وذلك يتوصل إليه بالحياة التى ملاكها العقل والعلم والاستقامة، قال الله تعالى: " اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ" وعن مجاهد فى الآية قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والنجاة والعصمة فى الدنيا والآخرة، وقوله: "يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِى" يعنى بها: الحياة الأخروية الدائمة. والحياة باعتبار الدنيا والآخرة ضربان: الحياة الدنيا الشهوانية، والحياة الصالحة الفائز صاحبها فى الآخرة: قال عز وجل: "فَأَمَّا مَن طَغَى (38) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا"، وقال عز وجل: "اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآَخِرَةِ"، وقال تعالى: "وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ"، أى: الأعراض الدنيوية، وقال: "وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا"، وقوله تعالى: "وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ"، أى حياة فى الدنيا. وهذا ليس من شأن المسلم الذى يحرص على الحياة الكريمة التى يرضاها له ربه سبحانه حتى يعيش دنياه عظيما وأخراه فائزا كريما.. نسأل الله ذلك آمين.