كما تعهد المنقلب السفاح السيسي عقب انتهاء مرحلة "أنتو نور عينينا" وانتقاله لمرحلة "هتدفع يعني هتدفع مفيش حاجة ببلاش" جاء الانتقام العسكري من الفقراء الذين كانت متعتهم هي الجلوس في الحدائق العامة أو مقابلة بعضهم والالتقاء مع الأهل والأقارب والأصدقاء لقضاء ساعات بعد عناء العمل وضيق الشقق والمساكن. حيث قررت محافظة القاهرة ، وبدون إعلان فرض رسوم على دخول الحدائق العامة التي ما زالت قيد الاهتمام والخضرة، بعد أن قضى السيسي بجيشه على أغلب المساحات الخضراء في إنشاء الطرق والكباري والمحاور المرورية، ثم قرر بعد ذلك تقليص جميع المساحات الخضراء في محافظات مصر وحوّلها إلى مقاهي ومولات ومحال تجارية سواء في حدائق الميرلاند بمصر الجديدة أو الأورمان بالجيزة وحديقة الحيوان، التي طرحت مساحات كبيرة منها للاستثمار التجاري لإنشاء كافيهات ومولات تجارية كما يجري حاليا في حدائق النيل بالمنصورة والفسطاط وغيرها. الانتقام من الفقراء الانتقام من الفقراء وتمثل الضربة الانتقامية الأخيرة للفقراء المعتادين منذ عقود من الزمن على الفسحة المجانية، لتصدم حديقة "السواح" المواطنين القادمين إليها من المرج والزاوية والوايلي بفرض رسوم مالية مقابل الدخول ومن يرفض يكون مصيره الرش بالمياه وإغراق الحديقة وطرد مرتاديها. ووفق روايات أهالي المنطقة وزوار الحديقة المصدومين، وفق تصريحات صحفية، تحولت حديقة السواح إلى مشروع استثماري وقام الحي بتأجيرها لأحد الأشخاص الذي منع بدوره أي أحد من الجلوس وافتراش الحديقة مجانا، فيما تشكل المسطحات الخضراء أو الحدائق العامة التي تتوسط الميادين في العاصمة مكونا أساسيا للمدينة، ليس فقط من الجانب البيئي والطبيعي، ولكن اجتماعيا، إذ تشبه الرئة الأساسية للطبقة العاملة التي يستطيعون من خلالها التنزه وقضاء أوقات الفراغ والاستجمام وقضاء وقت اجتماعي يلائم ظروفهم الاقتصادية، مشاريع تجارية لكن الكثير من المساحات الخضراء اختفت من العاصمة، بسبب تحويلها إلى طرق أو ميادين أو كباري، أو حتى تأجيرها لأحد المستثمرين، ما وضع الفقراء الذين يفترشون الحدائق في أيام العطلات والأعياد أمام حيرة يصعب معالجتها، إذ صارت النزهات رخيصة الثمن حلما بعيد المنال، ويوضح عباس الزعفراني، عميد كلية التخطيط العمراني بجامعة القاهرة سابقا، أنه لا توجد إحصائية للمسطحات التي تم القضاء عليها في الآونة الأخيرة بالقاهرة التي شملت تطوير الطرق والميادين وتحويل المسطحات الخضراء لأغراض أخرى، ولكن نية محافظة القاهرة كانت واضحة فهي تعتزم طرح 249 فدانا في حدائقها العامة التي تبلغ 30 حديقة، للاستغلال في مشاريع خدمية، وفقا لما أعلنه اللواء محمد سلطان رئيس مجلس إدارة الحدائق المتخصصة بالعاصمة في أغسطس 2020. أعداء الجمال ووفقا لتقرير لمحافظة القاهرة نُشر في نفس التوقيت، تصل المساحات الخضراء التابعة لها بالحدائق العامة إلى 3.5 مليون متر، تعتبر متنفسا طبيعيا للسكان وموزعة على نطاق 38 حيا سكنيا في أربع مناطق تابعة للمحافظة. المنطقة الشرقية التي تضم 9 أحياء (منها مصر الجديدة والنزهة وعين شمس) تستحوذ على النسبة الأكبر من المسطحات الخضراء العامة بنسبة 65 %، وذلك من إجمالي الحدائق العامة بمحافظة القاهرة، كما جاء نصيب المنطقة الجنوبية التي تشمل 11حيا (منها مصر القديمة والمقطم ودار السلام) بها 24 % من إجمالي مساحة المسطحات الخضراء بالعاصمة، فيما تعتبر المنطقة الغربية التي تضم 9 أحياء (منها منشأة ناصر وبولاق وباب الشعرية) من أقل المناطق التي بها حدائق عامة وتصل نسبها إلى 4.5%، أما المنطقة الشمالية فتشمل 8 أحياء (منها شبرا وحدائق القبة والشرابية) فنصيبها 6.5 % من إجمالي الحدائق العامة بالقاهرة. فيما يقول الزعفراني إن "نصيب الفرد من المسطحات الخضراء في القاهرة حوالي 1.5 مترا مربعا فقط، وهو من بين أقل المعدلات بين مدن العالم، مقارنة بالمعايير التخطيطية العالمية التي تتراوح بين 10 و18 مترا مربعا للفرد، والمعايير المصرية المطبقة في المدن الجديدة التي تتراوح بين 11 و13 مترا مربعا للفرد. ويقول أستاذ التخطيط العمراني إنه ليس ضد وجود مجال تجاري ولكنه ضد تحويل غاية الحدائق المفتوحة والعامة، وحصرها على طبقة أخرى لا تحتاجها، موضحا أن مفهوم الحدائق الوطنية موجودة ومجانية في العالم كله إلا مصر؛ التي تحولت حدائقها إلى الربحية، ويؤكد لابد من وجود فراغ مفتوح، فهناك قطاع آخر يدفع ضرائبه، ومن حقه أن يستمتع بالمجال العام، لا بد من وجود نزهة مجانية لغير القادرين على الدفع في نزهات الملاهي والمولات". وبحسب الدليل الإرشادي لأسس ومعايير التنسيق الحضاري للمناطق المفتوحة والمسطحات الخضراء تقام حدائق الشوارع وسط الشوارع وعلى جانبيها، لتوفير أماكن للراحة والانتظار ومشاهدة المواكب، ولا تزيد نسبة هذه الحدائق بالشوارع عن نصف نصاب الحي أو 20 %من مسطح المدينة أيهما أقل، المناطق المفتوحة وفي حالة تعذر توفير هذه المعدلات في المناطق المفتوحة على المستويات التخطيطية المختلفة بشكل فوري، يجب أن تتحقق تدريجيا خلال 20 عاما وفق برنامج زمني محدد، بحيث يتحقق منها 7% على الأقل سنويا (5%زيادة حقيقية، أخذا في الاعتبار تزايد أعداد السكان بمعدل 2%سنويا).
توصيات لم تنفذ وقد صدر هذا الدليل عام 2010، إلا أن جميع توصياته بشأن المسطحات الخضراء والحدائق العامة وزيادتها لم تتحقق، بل حدث العكس بالقضاء على بعضها وتأجيرها، لتصبح مساحات تجارية ترفيهية مغلقة، إلغاء أماكن مرور المشاة ومن ضمن الانتقام الحكومي من المواطنين في عهد المنقلب السيسي إلغاء أماكن مرور المشاة من الشوارع والميادين المطورة ، علاوة على ذلك تهمل بعض الأحياء الحدائق المجانية بصورة فجة تحولها لمكان للمجرمين والخارجين عن القانون ولأصحاب الغرز والمقاهي والكلاب الضالة ، كما يروي شهود عيان عن حديقة الأميرية، والتي يطلق عليها الأهالي اسم "الأميرية البلد" والتي أُهملت من الحي، وكان يأتي لها الجميع من الزاوية والوايلي والأميرية والسواح، وبها خدمات ملحقة مثل الحمامات ،والتي تم هجرها وسكنتها الأشباح، ويأتي التضييق على السكان في المساحات الخضراء بالقاهرة، على الرغم من أن سكان القاهرة يستنشقون أكثر من 11 ضعف الحد المسموح به من الجزيئات الملوثة للهواء عالميا، ويتكرر الأمر من السواح إلى حديقة عابدين والتي لم تكن مجرد منتزه، بل ميدان تاريخي شهد أحداثا تاريخية كبرى مثل ثورة عرابي وثورة يوليو 1952، وكانت قيمته الجمالية في امتداد البصر للقصر الرئاسي وفخامته، ففي 2015 تم تطوير واجهات قصر عابدين وأصبح ميدان عابدين مسطحا أخضر بأشجاره التاريخية ومزود بمقاعد أكثر ، وبات مقصدا للأهالي من أجل التنزه مع أطفالهم وتعلم ركوب الدراجات، بعد ذلك أصبحت الحديقة رهينة لمبنى المحافظة المقابل لها، وفي السنوات الأخيرة أصبح أمن المحافظة يطوقها ويمنع أي شخص من الجلوس على مقاعدها. ولكن يبدو أن التطوير لم يكن كافيا ففي إبريل الماضي كانت المفاجأة أن تحولت الحديقة وميدانها العريق من مجانية ومفتوحة دون أسوار إلى أخرى برسوم دخول خمسة جنيهات، وأسوار وبوابات حديثة وأكشاك طعام بثوبها الجديد بأسماء إنجليزية وجودة طعام متوسطة، في الداخل، لتنتهي رمزية الحديقة وإتاحتها، تخطيط عمراني فاشل بالطرق والمحاور الجديدة ومما يفاقم الأزمة وانعدام متنفسات خضراء لساكني العاصمة والمدن الكبرى، هو إشراف مهندسي المرور والكباري على حركة تطوير الشوارع والميادين التي أكثر منها السيسي، إذ يغيب عن عملية التطوير مهندسي التخطيط العمراني، حيث تقلص عدد من الجزر الوسطي بالميادين، ومُنع الجماهير من الاستمتاع بها، حيث تغيب دائما عن مهندسي المرور والكباري، أي بعد عمراني في الطرق الجديدة، وقضوا على عدد من الجزر والمسطحات الخضراء لتوسعة الطريق، ووفق الدراسات العلمية ، فإن الوظائف العمرانية للمسطحات الخضراء والحدائق العامة، تختلف ما بين لعب الأطفال، والجلوس والتنزه وقيادة الدرجات، والاسترخاء والاستمتاع بالطبيعة، وغيرها، بحسب كتاب الأسطح الخضراء للمهندسة دينا خاطر، ولم تذكر أن يكون أحد وظائفها الاستثمار وغلق فضائها الرحب. الأمن يسيطر على فضاء "التحرير" وعلاوة على توحش الراسمالية العسكرية الحاكمة لمصر، والتي لا ترى إلا الأموال والضرائب والرسوم حقا لها من جيب المواطن، تُفاقم العقلية الأمنية من مأساة المصريين في المساحات الخضراء والمتنفسات الطبيعية ، حيث تمنع العقلية الأمنية الجميع من الجلوس على مقاعد ميدان التحرير الذي جرى إغلاقه، وبات كل أحد يريد أن يجلس من الشباب أو الرجال أو الفتيات، مشتبه به أمنيا، ومنع حتى لعب الأكفال بالدراجات في نهاية الليل كعادة سكان المناطق المجاورة للميدان، في باب اللوق أو بولاق أبو العلا، هذا بجانب ارتفاع أسعار الاشتراك بالأندية، إذ يتكلف اشتراك الطفل الواحد نحو 500 جنيه غير المواصلات، ما يضع على كاهل الأسرة 1200 جنيه شهريا، هي في غير استطاعتها لتوفيرها بالأساس، ما يحرم الأجيال القادمة من حقهم في متنفس طبيعي في القاهرة والمدن الكبرى من أجل جنيهات يحصلها السيسي من جيوب الفقراء، بينما الاغنياء مفتوحة أمامهم منتجعات الجولف والسواحل والفنادق والأندية الخاصة والعزب والمتنزهات الفارهة والقرى السياحسة والقرى الخضراء المخصصة للخيل وغيرها.